بسم الله الرحمن الرحيم
إن من القصور الذي يعانيه الناس اليوم , أنهم يعلمون
كلام أهل العصور التي يعيشونها , ويقصرون في تتبع ومعرفة
وتدبر كلام سلفنا الصالح ( وكلام السلف قليل .. كثير الفائدة ..
وكلام الخلف كثير .. قليل الفائدة ) كما قال ذلك ابن رجب رحمه
الله تعالى في كتابه القيم ** فضل علم السلف على علم الخلف **
وأساس ذلك ؛ أن السلف كانوا إذا تكلموا اقتفوا في كلامهم أثر
النبي صلى الله عليه وسلم .
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يوجز كلامه ,, وقد أوتي
جوامع الكلم , وهي الكلمات القليلة التي تحوي المعاني الكثيرة .
فتجد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ,, لهم من
الكلمات , ولهم من الوصايا , ولهم من الخطب , ولهم من الرسائل , التي يوصي فيها بعضهم بعضا ماهو قليل الكلمات
قليل الحروف , ولكن من تدبره وجد تحت كل جملة العجب
العجاب من تفرع المعاني وكثرتها وقوتها ..
وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم , طبقات , ومنهم
المهاجرون الذين أسلموا قديما وصحبوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في مكة ,, ومن هؤلاء ,,
خاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وصاحب نعليه ,
وصاحب طهوره _ عبدالله بن مسعود الهذلي _ المتوفى سنة
32ه.رضي الله عنه وأرضاه .
وهذه وقفات مع مجموعة من الكلمات والوصايا التي أوصى
بها هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه , وأسأل الله تعالى أن
ينفع بها كاتبها وقارئها وناقلها .
الوقفة الأولى :
رأى ابن مسعود رضي الله عنه , مرة أصحابه يتبعونه , أي
يعظمونه , ورأى أن العدد قد كثر , فأوصى وصية على نفسه
يبين فيها حاله , ويبين فيها ما يجب أن يكون عليه كل من كان
له تبع , فقال رضي الله عنه لأصحابه ( لو تعلمون ذنوبي
ما وطئ عقبي اثنان , ولحثيتم التراب على رأسي , ولوددت
أن الله غفر لي ذنبا من ذنوبي , وأني دعيت عبدالله بن روثة )
أخرجه الحاكم وغيره
ولهذه الكلمة من ابن مسعود رضي الله عنه _ مغزى عظيم
جدا _ فهي تدل على أنه لابد على من كان على شهرة أو كان
ممن ينظر الناس إليه , أن يحتقر نفسه دائما بينهم , ويظهر ذلك
لا لكي يرتفع بينهم , وإنما لكي يرتفع عند الله عزوجل , ومدار
ذلك ( الإخلاص ) فمن الناس من يزدري نفسه بين الناس والله
تعالى يعلم أنه صادق , ومن الناس من يزدري نفسه أمام الناس
ليظهر بينهم , وهذا من الشيطان .
الوقفة الثانية :
قال ابن مسعود رضي الله عنه ( إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه
قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه , وإن الفاجر يرى ذنوبه
كذباب مر على أنفه فقال به هكذا _ أي بيده _ فذبه عنه )
ومعنى هذه الكلمة العظيمة من ابن مسعود رضي الله عنه
أن المؤمن إذا أذنب ذنبا فإنه يراه عظيما جدا , وإن كان من
صغائر الذنوب , وأما الفاجر فهو يرى ذنوبه يسيرة وربما
لا يكاد يشعر بها , وإن كانت من كبائر الذنوب والعياذ بالله ,
ومدار هذه الوصية من ابن مسعود رضي الله عنه , أن على
المسلم _ إذا أذنب ذنبا _ أن يعظم أمر ذنبه وإن كان صغيرا
لأنه إذا عظم أمر ذنبه فإنه سيسعى لطلب المغفرة _ سيسعى
إلى التوبة _ سيسعى إلى مفارقة الذنوب .
الوقفة الثالثة :
قال ابن مسعود رضي الله عنه ( اعتبروا الناس بأخدانهم
فإن المرء لا يخادن إلا من يعجبه ) وهذا مأخوذ من قول النبي
صلى الله عليه وسلم ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من
يخالل ).
ومعنى هذه الوصية العظيمة من ابن مسعود رضي الله عنه
أنك إذا رأيت إنسانا يصاحب إنسانا آخر , فاعتبر هذا بذاك ,
فإن المرء لا يصاحب إلا من يعجبه كما قال ابن مسعود رضي
الله عنه ,, أي يعجبه في تصرفاته ,, يعجبه في كلامه ,, يعجبه
في تفكيره .
و مغزى هذه الوصية أن على الإنسان أن يعتبر نفسه , فليس
المقصود أن يحكم على الآخرين , وإنما المقصود هو أن يحكم
على نفسه , فإن كان لا يصاحب إلا أهل السنة فمعنى ذلك أنه
محب لها ,, وإن كان لا يصاحب إلا أهل البدع فليعلم أن المرء
على دين خليله , وكل ٌ حسيب نفسه ,, وهذه الوصية تربويةٌ
جامعةٌ دعويةٌ.
الوقفة الرابعة :
قال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه ( إنكم في زمان كثير
علماؤه , قليل خطباؤه ,, وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير
خطباؤه ) الخطيب هو الذي يلقي كلاما علنيا على مجموعة من
الناس ,, فيدخل فيه خطيب الجمعة , والمحاضر , والمدرس
وكل من يخطب .
وفي هذا الزمن , الخطباء على هذا المعنى كثير ,, ولكن
العلماء كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ,,,,, قليل .
وابن مسعود رضي الله عنه قد قال هذه الكلمة ليحذر الناس
من الابتعاد عن طريق أهل العلم , وإتيان طريق الخطباء , وإذا
نظرنا إلى كلام ابن مسعود رضي الله عنه , وتأملنا الواقع اليوم
وجدنا أن سماع الناس لكلام الخطباء , أكثر من سماعهم لكلام
العلماء .
الوقفة الخامسة :
قال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه محذرا وموصيا
وعاهدا إليهم , بل إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم _ فقال _
( إنها ستكون أمور مشتبهات , فعليكم بالتؤدة , فإن الرجل يكون
تابعا في الخير خيرٌ له من أن يكون رأسا في الضلالة )
أمور مشتبهات ,, أي في الأقوال وفي الواقع وفي أحوال
الناس , فبين رضي الله عنه كيف يجب أن يكون المرء عند ورود
المتشابهات , فقال : ( فعليكم بالتؤدة ) أي , الزموا الرفق .
فإذا ابتدأت المشتبهات التي لا يدري الإنسان كيف يرجعها,,
لا يدري ماذا يقول فيها ,, لا يدري هل يفعل فيها كذا أو يفعل
فيها كذا .
فوصية ابن مسعود رضي الله عنه له أن يلزم التؤدة , أي
الرفق , لأنه لا يجوز له أن يتصرف تصرفا إلا عن علم , ولا
يتصرف على جهل ,, لأن العلم به النجاة , والجهل أودى الناس
للهلاك .
فعلى المرء أن يتأنى , فلا يتكلم إلا بكلام يعلم حسنه في
الشرع , وإصابته في الشرع , فإن كان عاميا أو طالب علم ,
فعليه أن يسأل أهل العلم , الراسخين فيه , فَيُبَصرُونَه .
ومعنى قوله رضي الله عنه ( فإن الرجل يكون تابعا في الخير
خيرٌ من أن يكون رأسا في الضلالة ) معناه , أن الأمور المتشابهة
إذا أقبلت وأتاها الإنسان دون معرفة شرعية صحيحة , كانت
عاقبتها إلى ضلالة .
فأن يكون تابعا في الخير خيرٌ من أن يكون رأسا في الضلالة ,
لأن المحاسبة يوم القيامة تكون على ما عَمِلَ ,, لا على ,, هل
كان رأسا أم كان تابعا .
المصدر :
شريط : ( وقفات مع كلمات لابن مسعود
رضي الله عنه )
لفضيلة الشيخ : ** صالح بن عبدالعزيز بن محمد
آل الشيخ ,, حفظه الله ,,**
تفريغ أختكم : شموع الذكر
أسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بهذه الكلمات ,
وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ,
إنه ولي ذلك والقادر عليه .
لكم ودي وخالص احترامي للجميع ,,,,,,,
لا تنسوني من صالح دعائكم ,,,,,,,,,