التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

قواعد نبويه 9/50 – د. عمر بن عبد الله المقبل

"قواعد نبويه [9/50] " .. د. عمر بن عبد الله المقبل

القاعدة الثامنـــــة.."إنما الطاعة في المعروف".

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من آتاه ربه جوامع الكلم في أقواله، وعظيم الأخلاق في أفعاله، أما بعد:
فمرحباً بكم أيها القراء الكرام في حلقة جديدة من حلقات هذه السلسلة "قواعد نبوية" والتي نتذاكر فيها قاعدة من القواعد النبوية، وجوامع الكلم المصطفوية، بعنوان:
"إنما الطاعة في المعروف".

عَنْ عَلِيٍّ ، قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا ، فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ ، فَقَالَ : اجْمَعُوا لِي حَطَبًا ، ثُمَّ قَالَ : أَوْقِدُوا ، فَأَوْقَدُوا ، ثُمَّ قَالَ : أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَسْمَعُوا وَتُطِيعُوا ؟ ، قَالَ : فَادْخُلُوهَا ، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، وَقَالُوا : إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ ، فَكَانُوا كَذَلِكَ ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَطُفِئَتِ النَّارُ ، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ " .

هذه هي قصة هذه القاعدة العظيمة، والتي لا تختص بهذا السبب – فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب – بل هي عامة في كل من تجب طاعته من الولاة، والوالدين، والزوج، وغيرهم؛ فإن الشارع أمر بطاعة هؤلاء، وطاعة كل واحد منهم إنما تكون بحسب حاله، وبما يقتضيه العرف؛ وهذا من عظمة هذا الدين، فإنك تجده في الأمور التي يصعب ضبطها بسبب اختلاف الأحوال أو الأزمان أو الأشخاص يَرُدّ الناس إلى العرف والعادة، كما هو الحال في البر والصلة، والعدل والإحسان العام، فكلها تقيد بهذا القيد.

ويفهم مما سبق أمور:
أولها: أن من أمر منهم بمعصية الله، وهذا يشمل: فعل المحرم وترك واجب، فإنه لا طاعة له، ولهذا "أجمع العلماء على أن من أمر بمنكر لا تلزم طاعته؛ قال الله عز وجل:"وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ". (2)

وقد فقه هذا المعنى أمراء العدل، ومنهم عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – حيث قال في أول خطبة له بعد توليه الخلافة: "أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم".

كما فقهه أئمة الدين، ومن تأمل في سيرة الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – على سبيل المثال- وجدها في قمة التوازن، فإنه لما دعي إلى معصية الله -وهي القول بخلق القرآن- أبى، ولم يجب بحرف واحدٍ، وعذّب بسبب ذلك من قبل إمامه، وحصل له من المحن والابتلاء شيء عظيم، وهو في الوقت ذاته صابر محتسب، رابط الجأش، ولم تكن تلك الفتنة لتجعل ميزانه في باب السمع والطاعة لولاة الأمور أن يختل – وإن ظلموا وجاروا – بل كان ينهى من يريد الخروج عليهم، وختم حياته بإباحة كل من آذاه إلا من كان عدواً للإسلام، أما من كانت عداوته شخصية فقد أباحه وحلّله – رحمه الله -.

يقول حنبل – وهو ابن عمه رحمه الله -: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا – يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك – ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وقال: ليس هذا صواباً، هذا خلاف الآثار. (3)

ثاني دلالات هـــــــــــــــــذه القاعدة النبوية "إنما الطاعــــــــــة في المعروف":
أنه إذا تعارضت طاعة هؤلاء الواجبة، ونافلة من النوافل؛ فإن طاعتهم تقدم؛ لأن ترك النفل ليس بمعصية، فمثلاً لو نهى زوجته عن صيام النفل لمصلحته، أو حج النفل، أو أمر الوالي الشرعي بأمر من أمور السياسة وهذا الأمر يترتب عليه ترك مستحب؛ وجب تقديم طاعته لأنها واجبة، وإن ترتب عليه ترك المستحب.

و أؤكد ههنا على أن ذلك في حالة التعارض، أما إذا لم يكن ثمة تعارض، بل أمكن طاعتهم مع فعل النافلة، فإنه لا طاعة لهم في النهي عن النفل، وأضرب لذلك مثالاً يوضح المعنى: فلو أن أحد الوالدين طلب من ولده أن يذهب به إلى السوق بعد الصلاة مباشرةً، وعامل الوقت في هذا مقصود، والولد يريد أن يتنفل، فهنا تعارض أمر الوالد ونافلة الولد، فهنا يقال: يجب على الولد أن يبادر لخدمة والده؛ لأن تأخره عن الذهاب في ذلك الوقت قد يضر به، أو يفوّت عليه مصلحة من المصالح، لكن لو كان الذهاب إلى السوق فيه سعة من الوقت، ولكن الوالد قال: لا أريدك أن تتنقل، من غير سبب، فهنا لا طاعة له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيّد الطاعة بالمعروف، فقال: "إنما الطاعة في المعروف".

ومن المسائل التي يبتلى بها بعض الأزواج: أن تأمره أمه بطلاق زوجته لغير سبب شرعي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته قال لا يحل له أن يطلقها، بل عليه أن يبرها وليس تطليق امرأته من برها. (4)

ومن المسائل التي يبتلى بها بعض الناس: ما سئل عنه الإمام أحمد – رحمه الله – من قبل أحد طلاب العلم، حيث يقول: إني أطلب العلم، وإن أمي تمنعني من ذلك، تريد حتى أشتغل في التجارة، قال: لي دارها وأرضها، ولا تدع الطلب. (5)

وهذه الأجوبة من هؤلاء الأئمة رحمهم الله – وغيرها كثير – هي من فقههم التطبيقي لهذه القاعدة النبوية العظيمة: "إنما الطاعة في المعروف".

"وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين، وشر الشرين، وينشد:

إن اللبيب إذا بــــــــــــــــــدا من جسمه
مرضان مختلفان داوى الأخطــــــــــراً (6)

أيها الإخـــــــــــــــــــــــــــــــوة الأكارم:
ومن دلالات هذه القاعدة – وهي الدلالـــــــــــــــــــــــة الثالثة في حديثنا هــــــــــــــــــــــــــــذا -:
أن هذه الطاعة – كغيرها من أوامر الشرع- منوطة بالاستطاعة، فإنه إذا كانت الأوامر الواجبة بأصل الشرع معلقة بهذا القيد، فكذلك طاعة هؤلاء، الذين طاعتهم تبع لطاعة الله؛ وقد جاءت نصوص تصرّح بهذا القيد في بعض هذه المواضع الخطيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم – حديث ابن عمر – في طاعة الأمراء:"عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يُبَايِعُنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَيُلَقِّنُهُمْ فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ " . ".
وفي شأن بيعة النساء، قال الله تعالى:"وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ"[الممتحنة: 12].

كانت هذه – أيها الإخوة الكرام – منارات وإشارات، في بيان هذه القاعدة النبوية الشاملة، وإلا فإن شرحها يمكن أن يفرد بحلقات؛ لعظيم ما اشتملت عليه من أحكام جليلة، ومعان كثيرة.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً، يعز فيه أولياؤك، ويذل فيه أعداؤك، والطف بها في مضلات الفتن والأهواء، إنك سميع مجيب الدعاء.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وإلى لقاء جديد في حلقة قادمة بإذن الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

___________

(1) البخاري: (7145)، ومسلم: (1840).
(2) التمهيد: (23/ 277).
(3) الآداب الشرعية: (1/175).
(4) الآداب الشرعية: (1 / 447).
(5) الآداب الشرعية: (2/35).
(6) مجموع الفتاوى: (20/54).

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.