المسلم بين الخوف و الرجاء
ينفطر القلب و يكاد ينخلع من مكانه خوفاً و رهبةً من الجبار المتكبر ، فيخطر في البال إسم الرحمن الرحيم الرؤوف فيسكن في الصدر و تطمئن النفس و يرتاح البال
لا خلاص للنفس و لا نجاة إلا بخوف و رجاء ، فهما كجناحي طائر بدون أحدهما لا مناص من الهلاك
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ” القلب في سيره إلى الله ـ عز وجل ـ بمنزلة الطائر ؛ فالمحبة رأسه ، والخوف ، والرجاء جناحاه ؛ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيِّـدُ الطيران ، ومتى قطع الرأس مات الطائر ، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر “ .
فالعبد بحاجة لخوف يردعه عما تتطلبه النفس الأمارة بالسوء من الشهوات و المعاصي و الركون للكسل و ترك العمل من فرائض و سنن ، فلا يأمن مكر الله إلا خاسر ، فقد قال الله جل جلاله في كتابه الكريم (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ))
ولقد كان الحبيب محمد صلى الله عليه و سلم حاله في الصلاة كما أخبر عنه أصحابه (( وإن في صدره لأزيز كأزيز الرحى من البكاء )) رواه أبو داود والترمذي والنسائي
و قال أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد النيسابوري : الخوف سراج في القلب ، به يبصر ما فيه من الخير والشر ، وكل أحد إذا خفته هربت منه ، إلا الله ـ عز وجل ـ فإنك إذا خفته هربت إليه . فالخائف من ربه هارب إليه .
وقال إبراهيم بن سفيان : إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها ، وطرد الدنيا عنها
و يجب أن نعلم أن الخوف المحمود الصادق : هو ما حال بين صاحبـه وبين محارم الله ـ عز وجل ـ فإذا تجاوز ذلك خِيْفَ منه اليأس والقنوط
و لا بد له من رجاء و حسن ظن بربه يغسل عنه الوهن و يجدد الطاقات و يقوي العزم للتقدم و التقرب من رب العالمين الخالق البارئ ، فاليائس من رحمة الله كافر حيث جاء في كتاب الله إخبارا عن يعقوب عليه السلام أنه قال لبنيه : (( يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ))
و قال ابن القيم يعرفنا بحقيقة الرجاء.. يقول: “وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ } [البقرة: 218] فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه الطاعات؟
وقال المغترون: إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره الباغين على عباده المتجرئين على محارمه أولئك يرجون رحمة الله”!!
كمثل رجل رجا أن يجني غلة أرضه من غير حرث وزرع وتعاهد للأرض، أو أن يجيئه ولد من غير جماع، أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام وأمثال ذلك، لعده الناس من أسفه السفهاء. فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه “
أيهما يُغلَّب : الخوف أم الرجاء ؟
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ” السلف استحبوا أن يُقَوِّي في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء ، وعند الخروج من الدنيا يقوي جناح الرجاء على جناح الخوف ، هذه طريقة أبي سليمان وغيره .
وقال : ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف ، فإذا غلب الرجاء فَسَدَ .
وقال غيره : أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوف ، وغلبةُ الحب ؛ فالمحبة هي المرْكَبُ ، والرجاء حادٍ ، والخوف سائق ، والله الموصل بمنِّه وكرمه “
و قد أثنى الله -سبحانه وتعالى- على عباده؛ الذين يعبدونه بالخوف والرجاء ، قال سبحانه : (( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ))