من منا لم يشرب من ماء زمزم الذي قال عنه الرسول (صلى الله عليه وسلم): “ماء زمزم لما شرب له، إنه طعام طعم وشفاء سقم”.
وكلما شربنا ماء زمزم تذكرنا هاجر عليها السلام أم نبي الله اسماعيل عليه السلام الذي كان سببا في خروج هذا الماء من الأرض.
لكن قبل ان نتعرف الى هاجر ينبغي ان نتعرف الى سارة عليها السلام التي كانت سببا في ظهور هاجر في الصورة وبعد ذلك صارت أم نبي…
إذن سارة وهاجر هما زوجتان لنبي الله ابراهيم عليه السلام، لكن سارة هي زوجته الأولى وهي أم اسحاق عليه السلام.
وسارة كانت امرأة جميلة والجميلات كان ملك ذلك الزمان يأخذهن لنفسه، وقد ورد في البخاري ومسلم ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: لم يكذب ابراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: ثنتان في ذات الله قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم، وواحدة في شأن سارة، فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإذا سألك فأخبريه أنك أختي في الاسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك.
فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها ان تكون إلا لك، فأرسل إليها فأتي بها، فقام ابراهيم الى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعي الله ان يطلق يدي ولا أضرك، ففعلت فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الاولى فقال لها مثل ذلك ففعلت، ثم عاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعي الله ان يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ففعلت وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها وقال له إنك أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، أخرجها من أرضي وأعطها هاجر.
قال فأقبلت تمشي فلما رآها ابراهيم انصرف فقال لها: مهيم قالت: خيرا كف الله يد الفاجر وأخدمنا خادما، قال أبو هريرة راوي الحديث: فتلك أمكم يا بني ماء السماء.
أقول: هذه هي سارة زوجة ابراهيم الاولى وهي كما يقول ابن كثير بنت عمه هاران الذي تنسب إليه حران بلدة بالشام.
لم تلد سارة في البداية لأنها كانت عاقرا، لذلك فإنها كانت تفكر أن تزوج إبراهيم بأخرى رحمة به لأنه كان تواقا للولد، لكنها في الوقت نفسه كانت تخاف أن تأخذه الزوجة الجديدة منها.
وبالفعل فإن ذلك الجبار عندما وهب هاجر لإبراهيم وهب ابراهيم إياها لسارة، وسارة قامت بدورها ووهبتها لإبراهيم فاتخذها زوجة له، وما أن دخل بها إلا وحملت فأنجبت له اسماعيل.
وكم كان ذلك اليوم صعبا على سارة عندما رأت فرح ابراهيم عليه السلام بالولد وليست هي أم ذلك الولد.
عندئذ عادت سارة الزوجة الصالحة الى طبعها الأنثوي فغارت من هاجر وفكرت كيف تتخلص منها لا بقتلها بل بإبعادها عن وجهها على الأقل.
فكان من ذلك ان قرر ابراهيم ان يأخذ هاجر واسماعيل الى مكة، وكان ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى فخرج بهما وسارة في غاية الفرح حتى وصلوا الى مكة، وهناك تركهما وهو يقول “ربنا إني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون”. (الآيات رقم ،37 38) من سورة ابراهيم.
أقامت الأم وطفلها ولا ثالث لهما إلا الله، فأكلا من الزاد الذي معهما حتى فني، وعندئذ ذهبت هاجر تضرب يمينا ويسارا تبحث عن أحد لعله يمدهما بشيء.
وكانت في كل مرة تترك طفلها وتعلو مرة جبل الصفا ومرة جبل المروة، وفي المرة السابعة رأت اسماعيل يلعب في الماء فجاءت فرحة وجمعت التراب حول الماء كي لا ينتشر في الأرض وهي تقول: زمزمي زمزمي أي تجمعي يا مياه فبقيت واقفة مكانها فصارا يشربان من ذلك النبع فكان هو الطعام وهو الشراب.
وبعد ذلك صار سببا في أن تأتي قبيلة عدنان اليمنية وتسكن عندهما، وعندما يكبر اسماعيل يتزوج منهم وبذلك يتعلم العربية منهم ويصبح هو أبا العرب.
اما اسحاق الابن الثاني لابراهيم وهو ابو بني اسرائيل، فقد رزقه الله به من سارة بعد الكبر وهما في ارض فلسطين، قال تعالى: “وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب، قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا شيء عجيب”. (الآيات رقم 71 و72) من سورة هود.
أقول هكذا أراد الله ان يثبت لخلقه أنه قادر على:
1 كف يد الظالم من الظلم كما كف يد ذلك الجبار، فلم يقدر على امرأة ضعيفة.
2 وضع بذرة تعدد الزوجات في الأرض، لوجود عذر مقنع كالعقر مثلا.
3 بيان أن الغيرة غريزة في النساء فهن لا لوم عليهن إذا غرن من الضرات.
4 إعمار مكة وجعلها قبلة العالم بعد ان غمرها الطوفان، وكانت هاجر هي صاحبة الفضل الأول حيث قبلت الفراق والبعاد.
فيا ترى هل في نسائنا اليوم كسارة وهاجر؟ إذا قلتم نعم فإنني أقول: في الغيرة فقط بل أشد أيضا.
منقول
نبي الله موسى وتحويله جثة يوسف عليه السلام
اعداد الموضوع : محمد بن لمين
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } فرقنا البحر بدخولكم إياه ، وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلا فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح.
وأخرج الله تعالى كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم، وكل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط حتى رجع كل إلى أبيه، وألقى الله الموت على القبط فمات كل بكر لهم واشتغلوا بدفنهم حتى أصبحوا وطلعت الشمس، وخرج موسى عليه السلام في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يعدون ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره، وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانا ما بين رجل وامرأة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان أصحاب موسى ستمائة ألف وسبعين ألفا (1) .
وعن عمرو بن ميمون قال: كانوا ستمائة ألف فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد علينا الطريق.
فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا فقام موسى ينادي: أنشد الله كل من يعلم أين موضع قبر يوسف عليه السلام ألا أخبرني به؟ ومن لم يعلم به فصمت أذناه عن قولي! وكان يمر بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته حتى سمعته عجوز لهم فقالت: أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك؟ فأبى عليها وقال: حتى أسأل ربي( فأمره ) الله تعالى بإيتائها سؤلها فقالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة من الجنة إلا نزلتها معك قال: نعم قالت: إنه في جوف الماء في النيل فادع الله حتى يحسر عنه الماء، فدعا الله تعالى فحسر عنه الماء، ودعا أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف عليه السلام، فحفر موسى عليه السلام ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من مرمر، وحمله حتى دفنه بالشام، ففتح لهم الطريق فساروا وموسى عليه السلام على ساقتهم (2) وهارون على مقدمتهم.
__________الهوامش:
(1) نقل ابن خلدون في مقدمة تاريخه أن المسعودي وكثيرا من المؤرخين ذكروا أن موسى عليه السلام أحصى بني إسرائيل في التيه، بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة، من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف ويزيدون. ثم فند ذلك لجملة أسباب: أ- إن في ذلك ذهولا عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش، لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عما فوقها، تشهد بذلك العوائد المعروفة والأحوال المألوفة. ب- ثم إن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها، وبعدها، إذا اصطفت، عن مدى البصر مرتين أو ثلاثا أو أزيد، فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين؟ وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر؟. ح- وأيضا: فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لا تسع نطاق ملكهم وانفسخ مدى دولتهم. د- وأيضا فالذي بين موسى وإسرائيل إنما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون، والمدة بينهما على ما نقله المسعودي مائتان وعشرين سنة، ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة =أجيال مثل هذا العدد. انظر: مقدمة ابن خلدون، 1 / 13-16، طبعة دار الكتاب العربي.
(2) على مؤخرتهم: أي يقدمهم أمامه ويمشي خلفهم تواضعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المرجع: كتاب : معالم التنزيل للبغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ)
المحقق : حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر – عثمان جمعة ضميرية – سليمان مسلم الحرش
موسى والخضر والبحر
قال تعالى:{ فلما بلغ مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا* فلما جاوزاه قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا* قال أرأيت اذ أوينا الى الصخرة فاني نسيت الحوت وما أنسانيه الا الشيطان أن أذكره, واتخذ سبيله في البحر عجبا* قال ذلك ما كنا نبغ فارتدّا على آثارهما قصصا* فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} الكهف 61-65.
اختص الله عز وجل موسى بنعم كثيرة, وكذلك اختص قومه بهذه النعم التي أنعم بها عليه, ولذلك فقد ظل موسى عليه السلام يشكر الله على نعمه.
وكان موسى يصلي لله شكرا على ما أعطاه من نعم, يتعبّده حمدا على ما وهب له, ويبتهل اليه أن يديم عليه رضاه وكرمه. وذات يوم سأل ربّه: يا رب؛ أأنا الآن الوحيد على وجه الأرض الذي حبوتني بالعلم, وخصصتني بالمعرفة؟!
فأجابه ربه: يا موسى انك لا تعلم الا ما شئنا نحن أن تعلمه, ولا تعرف الا ما أردنا لك أن تعرفه.
قال موسى متسائلا: يا رب, أيوجد من هو أعلم مني؟!
فأجابه ربه: لي عبد صالح يعلم ما لا تعلم. ويعرف ما لا تعرف.
قال موسى: يا رب, أين أجد عبدك الصالح هذا؟ لقد اشتاقت نفسي الى معرفته.
قال عز وجل: يقيم الآن عند مجمع البحرين.
قال موسى: يا رب؛ أريد أن أذهب لأراه, فأرشدني اليه, ووفقني للقائه.
قال عز وجل: اذهب وسأجعل لك من عندي آية تدلك وعلامة بيّنة ترشدك.
1. البحث عن العبد الصالح
تهيأ موسى عليه السلام للذهاب لمقابلة العبد الصالح, الذي أرشده الله عز وجل اليه, فنادى يوشع بن نون فتاه المخلص وقال له: يا يوشع, اني عزمت على القيام برحلة, لا أدري: أتطول هي أم تقصر؟!! فهل لك في أن تصحبني في تلك الرحلة التي لا يعلم الا الله مداها؟!
وكان يوشع بن نون هو الفتى الذي أحبّ موسى عليه السلام, وآمن به وأخلص له, ووهبه قلبه, وصحبه في غدوّه ورواحه, ينهل من حكمة موسى عليه السلام, ويغترف من علمه, ويأخذ من معرفته.
قال يوشع: اني لك يا سيدي الصاحب الوفي والرفيق المطيع الأمين.
قال موسى عليه السلام: اذن, فلنتهيأ لرحلتنا من فورنا, ولنسر على بركة الله, فهو مرشدنا وهادينا الى سواء السبيل. وتهيأ موسى وفتاه للسفر وتزوّدا بزاد مما يتزود به عادة المسافرون, الذين يقطعون الصحارى, ويجتازون الفيافي والقفار, مثل الخبز الجف, والتمر اليابس, واللحم المقدد.
ولما جهزا جهازهما؛ سأل يوشع بن نون موسى: يا سيدي أي المطايا تركب؟ وأي القوافل تصحب؟ وأي الطرق تسلك؟!
قال موسى: يا بني, ستكون مطيتنا أرجلنا, وسيكون البحر صاحبنا, وسيكون شاطئه مسلكنا.
سأل يوشع متعجبا: والى أين نقصد؟!
قال موسى: نقصد مجمع البحرين, لأقابل رجلا من عباد الله الصالحين, أرشدني الله اليه.
قال الفتى: وهل تعرف مجمع البحرين؟!
أجاب موسى: سيعرّفني الله مجمع البحرين ويهديني اليه.
2. رحلة البحث
مضى موسى عليه السلام ومعه فتاه يوشع على شاطئ البحر, أياما وليالي, لا يكلان ولا يملان ولا يتأففان من طول سير, أو وعورة طريق؛ ولا يتوقفان الا لتناول غذاء, أو لأخذ قسط من النوم. ومرّ عليهما وهما على هذه الحالة وقت من الزمن, وموسى لا يزال كأول عهده بالرحلة: نشيطا, متشوقا الى مقابلة عبدالله الصالح, ولم تفتر همته, ولم يدركه سأم, ولم يتطرّق الى نفسه ملل.
وسأل يوشع موسى يوما: يا ترى!! ألأ يزال أمامنا مرحلة طويلة حتى نصل الى مجمع البحرين؟
قال موسى: لا أدري !! ولكنني لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين, أو أمضي حقبا.
واستمر موسى عليه السلام وفتاه يوشع يغذان السير في البر, وهما على روح الثبات والنشاط حتى نفد طعامهما, فاصطاد يوشع حوتا من البحر حمله معه, ليتزودا من لحمه, ووصلا الى صخرة عظيمة فجلسا يستجمان بجوارها, ويستظلان بظلها, ويصيبان قسطا من الراحة والنوم. فلما نالا قسطا من النوم قاما يسيران ويسعيان, فما كاد ينصرم نهارهما هذا, ويمسي عليهما المساء حتى شعر موسى بتعب وفتور لم يعهده من منذ بدأ رحلته, وأحس أن قدميه لا تستطيعان حمله أكثر مما حملتاه, أحس كذلك أن أعضاءه قد وهنت وضعفت, فجلس على الأرض, وقال لفتاه:{ آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} عسى أن يمدّنا الله ببعض القوة التي تعيننا بلوغ غايتنا.
حينئذ ضرب الفتى يوشع جبينه بيده, وصرخ صرخة مكتومة وقال لموسى:{أرأيت اذ أوينا الى الصخرة فاني نسيت الحوت وما أنسانيه الا الشيطان أن أذكره}.
قال موسى عليه السلام مستفسرا: وما بال الحوت؟!
أجاب يوشع قائلا: لقد تسرّب الحوت, واتخذ سبيله في البحر عجبا.
لقد هرب الحوت من السلة, ومضى في طريق محدد الاتجاه الى البحر. تعجب موسى عليه السلام من كلام فتاه يوشع, وسأله وقد دبّت في نفسه فرحة أمل, وابتسامة تفاؤل فقال: أفصح يا يوشع, ماذا حدث للحوت وما الذي حدث منه؟!!
قال يوشع: حدث وأنت نائم, ان أفقت أنا من نومي على صوت السلة التي بها الحوت, وكانت بجانبي, ففتحت عيني, فوجدته ينزلق متدحرجا بين الصخور, فأسرعت خلفه لأعيده الى مكانه؛ ولكني رأيت عجبا, ورأيت ما أدهشني.
قال موسى فرحا مستبشرا: ماذا رأيت؟ عجّل بالقول!!
قال الفتى في أسف وحسرة: رأيت الحوت قد غمره الماء, وخيّل اليّ أنه يتحرّك, ويتقلّب, كأن الحياة قد ردّت اليه, يضطرب في سرب بين الصخور, خرج منه الى البحر, دون أن أدركه, أو أستطيع اللحاق به.
فلم يدهش موسى, ولم يتعجب, فقد لمس في آيات الله له كل مقدرة, ورأى في بيّناته له كل عجب. ولكنه سرّ وفرح, فقد أدرك أن بعث الحوت الميّت, وردّه حيا, هو آية الله التي وعده بها ليرشده الى مجمع البحرين, وعرف أن الطريق الذي تسرب فيه الحوت هو الطريق الذي يؤدي الى عبد الله الصالح الذي ينشد لقاءه, فنهض نشيطا فرحا, وهو يقول لفتاه:{ ذلك ما كنا نبغ} فهيا بنا نعود الى الصخرة.
هذه الحالة في حد ذاتها بداية معجزات موسى عليه السلام التي وهبها الله له في هذه القصة الجميلة.
وسنرى المعجزات العجاب حين يلتقي بالعبد الصالح.
فما أشرق الصباح حتى ارتدّ موسى عليه السلام وصاحبه فتاه يوشع يقصّان ويبحثان عن آثارهما وطريقهما الذي جاءا منه, حتى لا يضلا عن الصخرة التي نزلا بجانبها من قبل, وما زالا سائرين يتحسسان طريقهما الأول, حتى وصلا اليها؛ فقال موسى عليه السلام لفتاه يوشع:
يا يوشع أرني المكان الذي تسرّب منه الحوت ونفذ الى البحر.
فأشار يوشع لموسى الى سرب بين الصخور, وقال له:
هذا هو الطريق الذي سلكه الحوت.
فنظر موسى عليه السلام الى حيث أشار يوشع, فوجده سربا بين الصخور يفضي الى البحر من ناحيته الأخرى, فنفذ منه ومن ورائه فتاه, فخرجا الى البحر من الناحية الأخرى للصخرة, ونظر موسى حوله, فرأى ما وعده الله حقا!! رأى ما حجبته الصخرة عن رؤيته بعظم رمها! رأى ماء البحر العذب يلتقي بماء البحر المالح.
ورأى بجانب الصخرة بساطا أخضر نضيرا من عشب أخضر, وقد جلس عليه شيخ جميل وضيء مهيب الطلعة, أبيض اللحية, وقد تربّع في جلسته.
عندئذ عرف موسى عليه السلام أنه أمام العبد الصالح الذي وعده ربه بلقائه, وهو الرجل الذي علمه الله سبحانه وتعالى أشياء من علم الغيب الذي استأثر به.
وكانت هذه الثانية خطوة على طريق المعجزات في هذه القصة المباركة, ترى بعد هذا اللقاء ماذا فعل موسى عليه السلام مع العبد الصالح؟ لنرى ذلك.
وتقدّم موسى من العبد الصالح وقال له:
السلام عليك يا حبيب الله.
فنظر الشيخ اليه, وقد أشرق وجهه, وردّ عليه السلام قائلا: وعليك السلام يا نبيّ الله.
ثم دعاه الى الجلوس بجانبه, فجلس موسى عليه السلام وهو يسأله دهشا مستعجبا: أوتعرفني؟!
قال الشيخ: نعم, أولست موسى نبي اسرائيل؟
قال موسى وقد ازداد عجبه: من أعلمك عني؟! ومن عرّفك بي؟!
أجاب الشيخ أعلمني عنك الذي أعلمك عني, وعرّفني بك الذي عرّفك بمكاني.
فامتلأ قلب موسى هيبة من الشيخ, وايمانا به, وعلم أنه حقا في حضرة رجل صالح قد اصطفاه ربه, واتخذه وليّا وآتاه رحمة من عنده وعلما من لدنه. فقال يسأله في تلطف وتودد:
{ هل أتبعك على أن تعلمنﹺ مما علّمت رشداْ}.
فابتسم الشيخ لموسى عليه السلام وقال له:
{انك لن تستطيع معي صبرا}.
قال موسى: سأصبر على كل ما تعلمني اياه, وترشدني اليه.
فهز الشيخ رأسه باسما, وقال:{ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا}.
يا موسى ان علمي الذي أعلمه غير علمك الذي تعلمه, لن تستطيع أن تصبر على ما يصدر من علمي, ولا تقدر أن تطيق ما تراه مني.
قال موسى:{ ستجدني ان شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا} فقد صح عزمي على أن أكون تابعك لتعلمني مما علمك الله وترشدني الى ما أرشدك اليه.
حينئذ حط عصفور على حجر في الماء, فنقر نقرة في الماء ثم طار, فقال الشيخ:
أرأيت يا موسى ما أخذ العصفور في منقاره من الماء؟!
والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله الا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر. ثم قال:
{فان اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} وأفسر لك ما خفي عليك تفسيره.
قال موسى على الفور: لك عليّ ذلك.
وبدأت قصّة المعجزة, بل المعجزات في هذه القصة في ثلاثة مشاهد عجيبة, سيفسر أسبابها العبد الصالح في النهاية فتكون معجزة حضرها موسى عليه السلام وتعلّم منها أنها معجزات علم الغيب.
3. القصة الأولى
اصطحب العبد الصالح النبي موسى عليه السلام الى شاطىء البحر وكان يتبعهما يوشع, وعند الشاطىء لاحت لهما سفينة سائرة في عرض البحر, فأشار لها الشيخ بيده فاقتربت من الساحل وأطلّ رجالها منها يستفسرون الشيخ وموسى عما يريدان, فعرفوا الشيخ لأنهم يرونه دائما جالسا يتعبّد على ساحل البحر؛ وقال لهم الشيخ:
– نريد منكم أن تحملونا معكم الى حيث تقصدون وليس معنا ما ننقدكم اياه أو نقدمه لكم أجرا على ذلك.
فقال رجال السفينة: مرحبا بالرجل الصالح…
وركب الشيخ وموسى ويوشع السفينة, ورحّب بهم أهلها أجمل ترحيب وأكرمه, وتسابقوا الى خدمتهم.
ومضت السفينة في طريقها سائرة بهم حتى قاربت أن ترسو على ميناء احدى المدن؛ حينئذ رأى موسى من الشيخ أمرا عجيبا! رآه قد أخذ فأسا من السفينة, واقترب من جدارها, وما زال يعالج بها لوحا من ألواحها حتى كسره, وخرقها.
فلم يملك موسى نفسه, وغضب لفعل الشيخ بالسفينة, لأنه رأى في ذلك اساءة لأصحاب السفينة, وتعريضا لهم جميعا لخطر الغرق؛ فقال له والغضب بدا على وجهه:
ماذا فعلت؟
قوم حملونا بغير أجر وأكرمونا غاية الاكرام, عمدت الى سفينتهم فخرقتها, لتغرقها وتغرق أهلها؟!{ لقد جئت شيئا امرا}.
1) آدم عليه السلام أبو البشر
2) إدريس عليه السلام: هو إدريس (خنوخ) بن يرد بن مهلاييل بن قينن بن أنوش بن شيث بن آدم أبو البشر
3) نوح عليه السلام: هو نوح بن لامك بن متشولح بن خنوخ (إدريس) بن يرد بن مهلاييل بن قينن بن أنوش بن شيث بن آدم
زوجته: والغة
أبنائه: سام، حام، يام (كنعان) "الذي غرق في الطوفان"، يافث
4) هود عليه السلام: هو هود (عابر) بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام
5) صالح عليه السلام: هو صالح بن عبد بن ماسح بن عبيد بن حاجر بن ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام
6) إبراهيم عليه السلام: هو إبراهيم (خليل الرحمن) بن تارح (آزر) بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام
أخوته: هاران (أبو لوط عليه السلام)، ناحور
زوجاته: سارة، هاجر، قنطورا، حجون
أبنائه
إسماعيل عليه السلام: من السيدة هاجر
إسحق عليه السلام: من السيدة سارة
مدين، زمران، يقشان، سرج، نشق، السادس اسمه غير معلوم: من قنطورا
كيسان، سورج، امم، لوطان، نافس: من حجون
7) لوط عليه السلام (وهو ابن أخ إبراهيم الخليل عليه السلام): هو لوط بن هاران بن تارح بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام
زوجته: فالهة
8) شعيب عليه السلام: هو شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم الخليل، ويقال أنه: شعيب بن ضيفور بن عيفا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم الخليل
9) إسماعيل عليه السلام: وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل
زوجاته: عمارة بنت سعد بن أسامة بن أكيل العماليقي
السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي
أبنائه اثنى عشر ذكرا
نابت، قيذار (وهم أصل عرب الحجاز)، إزبل، ميشي، مسمع، ماش، دوصا، أرر، يطور، نبش، طيما، قيذما
10) إسحق عليه السلام: وهو إسحق بن إبراهيم الخليل
زوجته: رفقا بنت بتواييل
أبنائه: (تؤأمان) العيص، يعقوب عليه السلام
11) يعقوب (إسرائيل) عليه السلام: وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
زوجاته: ليا وأختها راحيل، زلفى (جارية ليا)، بلهى (جارية راحيل) ء
أبنائه (الأسباط): 12 ذكور وبنت واحدة
روبيل، شمعون، لاوي، يهوذا، إيساخر، زابلون، دينا (بنت): من ليا
دان، نفتالي: من بلهي
جاد، أشير: من زلفي
وأخيراً الكريم بن الكريم يوسف عليه السلام وبنيامبن: من راحيل
12) يوسف عليه السلام: وهو يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
13) أيوب عليه السلام: وهو أيوب بن زراح بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل
14) ذي الكفل عليه السلام: وغير معلوم نسبة
15) يونس عليه السلام: وهو يونس بن متى وغير مرفوع نسبه لأكثر من ذلك
16) موسى عليه السلام (كليم الله): هو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
17)هارون عليه السلام (وهو أخو نبي الله موسي): وهو هارون بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
18) إلياس عليه السلام: وهو إلياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
19) اليسع عليه السلام: وهو اليسع بن عدي بن شوتم بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
20) داوود عليه السلام: وهو داوود بن إيشار بن
عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عميناذب بن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
21) سليمان عليه السلام: وهو سليمان بن داوود بن إيشار بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عميناذب بن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
22) زكريا عليه السلام: وهو زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داوود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهناشاط بن غينامن بن رحبعام بن سليمان بن داوود بن إيشار بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عميناذب بن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
23) يحيي عليه السلام: وهو يحيي بن زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داوود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهناشاط بن غينامن بن رحبعام بن سليمان بن داوود بن إيشار بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عميناذب بن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
24) السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام: وهو المسيح عيسى بن مريم بنت عمران بن باشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن احريق بن موثم بن عزازيا بن امصيا بن ياوش ين احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن ايشا بن إيان بن رحبعام بن سليمان بن داوود بن إيشار بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عميناذب بن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل
25) محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (شيبة) بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غاب بن فهر بن مالك بن النضر (قريش) بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن عدنان بن مضر بن نذار بن عدنان من نسل إسماعيل عليه السلام بن إبراهيم الخليل
الانبياء الذين سكنوا في فلسطين
إبراهيم عليه السلام
كان إبراهيم عليه السلام أول الأنبياء الذين نعلم أنهم عاشوا في فلسطين وماتوا فيها، وإبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء فمن نسله جاء الكثير من الأنبياء كإسحاق ويعقوب ويوسف وإسماعيل ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام .
ولد إبراهيم عليه السلام – حسبما ورد من آثار – في "أور" في العراق وعاش هناك ردحاً من الزمن حيث قام بتحطيم الأصنام ودعا إلى التوحيد وواجه النمرود وألقمه الحجة، وألقي في النار عقاباً له على تحطيم الأصنام فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وهاجر إبراهيم ومعه ابن أخيه لوط في سبيل الله، {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين}
ويظهر أن إبراهيم في البداية هاجر ومن معه إلى حران (الرها) وهي تقع الآن في جنوب تركيا إلى الشمال من سوريا، ومن هناك هاجر إلى أرض كنعان "فلسطين"، قال تعالى {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}، وحسب تقدير المؤرخين فإن قدومه إلى فلسطين كان حوالي 1900ق.م وكان هذا التاريخ بالنسبة لتاريخ العراق القديم يمثل نهاية عهد "أور الثالثة" التي حكمها السومريون وبداية العصر البابلي القديم الذي سيطرت فيه العناصر السامية القادمة من جزيرة العرب "العموريون" .
نزل إبراهيم عليه السلام في شكيم قرب نابلس ومنها انتقل إلى جهات رام الله والقدس ومر بالخليل ثم ببئر السبع حيث استقر حولها زمناً ثم ارتحل إلى مصر، وكان ذلك يوافق تقريباً عهد الأسرة الحادي عشر أو الثاني عشر لفراعنة مصر، وعاد من مصر ومعه "هاجر" التي أهداها الزعيم المصري، وذكر في رواية أنها ابنة فرعون أو إحدى الأميرات، ثم عاد إلى فلسطين فمر بجوار غزة حيث التقى (أبا مالك أمير) غزة، ثم تجول بين بئر السبع والخليل، ثم صعد إلى القدس، ثم إن لوطاً عليه السلام انتقل إلى جنوب البحر الميت حيث أرسل لأهل تلك المنطقة، بينما مكث إبراهيم عليه السلام في جبال القدس والخليل، وقد ولد إسماعيل عليه السلام لإبراهيم من زوجته هاجر، ثم رزق بإسحاق بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً من زوجته سارة، ويبدو أن إبراهيم رزق بأبنائه وهو في سن كبيرة نستشف ذلك من قوله تعالى على لسان سارة {يا ويلتا أآلد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً}
ويبدو أن إبراهيم عليه السلام تردد على الحجاز أكثر من مرة، فقد أحضر إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة وقصة سعي هاجر بين الصفا والمروة وتفجر ماء زمزم مشهورة، ثم إن إبراهيم عاد فبنى مع إسماعيل الكعبة {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. غير أن مركز استقرار إبراهيم ظل فلسطين، وفيها توفي حيث دفن في مغارة المكفيلة قرب "الخليل" وهي المدينة التي سميت باسمه عليه السلام. وقيل إنه عمّر 175 سنة .
عاصر( إبراهيم عليه السلام) حاكم القدس "ملكي صادق" وكان على ما يبدو موحداً وكان صديقاً له، وفي تلك الفترة كان المؤمنون بالله قلة نادرة، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم قال لزوجته سارة عندما أتى على جبار من الجبابرة "ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك"، ويظهر أن ذلك حدث عندما ذهبا لمصر، ولعلنا نستشف هذا المعنى من قوله تعالى {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله}.
لوط عليه السلام
فقد استقر جنوب البحر الميت حيث أرسل إلى قرية "سدوم" وهؤلاء كانوا يفعلون الفاحشة بالرجال "اللواط" وقد نهاهم لوط عن هذا فأعرضوا واستكبروا فانتقم الله منهم فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل {ولوطاً إذ قال لقومه أتاتون الفاحشة ما سبقكم بها من العالمين، إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون، وما كان جواب قومه إلا أن قالوه أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين}، {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}
اسحاق عليه السلام
عاش في أرض فلسطين ورزقه الله سبحانه يعقوب عليه السلام "إسرائيل" والذي يعتبره اليهود أباهم، وكان إسحاق ويعقوب منارات للهدى بعد إبراهيم عليه السلام، وانظر إلى البيان القرآني في إيجازه وروعته {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين0
}كان إبراهيمُ عليه السلام يذهب بعد كل مدة إلى مكة المكرمة يتفقدُ ولده إسماعيل وأمه هاجر عليهم السلام وقد صار إسماعيل عليه السلام بعدما تزوج هناك نبيًّا. وبعد أن بلغت زوجتُه سارة سنّ اليأس وهو السن الذي لا تلد المرأة فيه عادة وكانت إمرأة عقيمًا وكان عمرها تسعين سنة رزقها الله ورزق زوجها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ابنًا نجيبًا عليمًا هو إسحاق عليه السلام الذي اصبح عد ذلك نبيًّا كأخيه إسماعيل عليهما السلام0
أما كيف جاء إبراهيم وزوجته سارة البشارة بهذا الولد الطيب فقد ذكر الله تبارك وتعالى أن ثلاثة من الملائكة المكرمين عنده قيل هم: جبريل وميكائيل وإسرافيل لما وفدوا على نبي الله إبراهيم الخليل حسبهم أولاً ضيوفًا، فعاملهم معاملة الضيوف وشوى لهم عِجْلاً سمينًا من خيار بقره، فلما قَرّبه إليهم وعرض عليهم لم ير لهم همة إلى الأكل لأن ملائكة الله الكرام لا يأكلون ولا يشربون ولا يتعبون ولا يتوالدون وليس فيهم حاجة إلى الطعام، فلما وجد إبراهيم عليه السلام أن ضيوفه ليس لهم هِمة على الأكل لم يعرفهم ونكرهم وأوجس منهم خيفة، عند ذلك هدّءوا روعه وقالوا له: لا تخف، وطمأنوه أنهم في طريقهم إلى مدائن قوم لوط الكافرين ليدمّروهم ويُنزلوا بهم العذاب لكفرهم وفجورهم، فاستبشرت عند ذلك سارة غضبًا لله عليهم، وكانت قائمة على رءوس الضيوف كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم، وضَحِكت استبشارًا بذلك قال الله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71)} [سورة هود] أي بشرتها الملائكة بذلك، عند ذلك أقبلت سارة في صَرخة وصكّت وجهها كما يفعل النساء عند التعجب وقالت: كيف يلد مثلي وأنا امرأة كبيرة وعقيم وزوجي شيخ كبير فقالوا لها: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73)} [سورة هود]، وكذلك تعجب إبراهيم إستبشارًا بهذه البشارة فرحًا بها:{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55)} [سورة الحجر] أي اليائسين، فأكدوا لإبراهيم هذه البشارة وبشروه وزوجته سارة بغلام عليم وهو إسحاق أخو إسماعيل عليهما الصلاة والسلام
يعقوب عليه السلام
ولد في القرن 18 ق.م (حوالي 1750ق.م) في فلسطين، غير أنه هاجر على ما يظهر إلى حران "الرها" وهناك تزوج له أحد عشر ابناً منهم يوسف عليه السلام بينما ولد ابنه الثاني عشر بنيامين في أرض كنعان "فلسطين"
وقد رجع يعقوب عليه السلام وأبناؤه إلى فلسطين وسكن عند "سعيّر" قرب الخليل، وقصته وقصة ابنه بوسف مشهورة ومفصلة في (سورة يوسف) من القرآن الكريم. وهي التي تحكي تآمر إخوة يوسف على يوسف وإلقاءه في البئر واكتشاف قافلة له وبيعهم إياه في مصر، حيث شبّ هناك ودعا إلى الله وصمد أمام فتنة النساء وصبر في السجن حتى أكرمه الله بأن يوضع على خزائن مصر بعد تأويله الرؤيا وثبوت براءته0
ثم إن يوسف استقدم أباه يعقوب وإخوته إلى مصر حيث رد الله البصر إلى يعقوب بعد أن ابيضت عيناه على فراق يوسف، كما عفا يوسف عن إخوته0
وتذكر بعض الروايات أن يعقوب عاش في مصر 17 سنة غير أن دفن عليه السلام إلى جوار جده وأبيه إبراهيم وإسحاق في الخليل ويبدو أن تلك الفترة التي عاش فيها يعقوب وأبناؤه في مصر كانت توافق حكم الهكسوس لمصر وهم أصلاً من غير المصريين، ويمثل حكمهم الأسرتين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) آل عمران 59
قصة نبى الله سيدنا عيسى عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحديث عن نبي الله عيسى عليه السلام، يستدعي الحديث عن أمه (مريم)، بل وعن ذرية (آل عمران) هذه الذرية التي اصطفاها الله تعالى واختارها، كما اختار آدم ونوحا وآل إبراهيم على العالمين.
(آل عمران) أسرة كريمة مكونة من (عمران) والد مريم، و(امرأة عمران) أم مريم، و(مريم)، و(عيسى) عليه السلام؛ فعمران جد عيسى لأمه، وامرأة عمران جدته لأمه، وكان (عمران) صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه، وكانت زوجته (امرأة عمران) امرأة صالحة كذلك، وكانت لا تلد، فدعت الله تعالى أن يرزقها ولدا، ونذرت أن تجعله مفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس، فاستجاب الله دعاءها، ولكن شاء الله أن تلد أنثى هي (مريم)، وجعل الله تعالى كفالتها ورعايتها إلى (زكريا) عليه السلام، وهو زوج أختها أو خالتها، وإنما قدر الله ذلك لتقتبس منه علما ًنافعا ًوعملا ًصالحا ً.
ذهبت امرأة عمران بمريم إلى المسجد الأقصى وفاءً بنذرها، لتنشأ فيه نشأة طيبة وتتعلم أصول دينها، وتتربى على مكارم الأخلاق، وتكفَّل زكريا برعاية مريم وكان زكريا زوجًا لخالتها، فقام بتربيتها وكفالتها ورعايتها حتى كبرت على الأخلاق الحميدة.
عاشت مريم في محرابها تعبد الله وتسبحه وتقدِّسه، وذات يوم دخل عليها مجموعة من الملائكة على هيئة البشر، وأبلغوها ثناء الله -عز وجل- عليها، وحثوها على مزيد من الطاعة والعبادة والصلاة، فقالوا لها: {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك علي نساء العالمين . يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}آل عمران:4-43 ثم بشَّروها بولد منها سيكون نبيًّا كريمًا مؤيدًا بالمعجزات، فقالوا: {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح
عيسى بن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين . ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين }
آل عمران45-46
فتعجبت مريم، إذ كيف يكون لها ولد وليست متزوجة، ولم يمسسها أي رجل!! فأخبرتها ملائكة الله أن هذه هي إرادة الله سبحانه القادر على كل شىء، ولم تملك مريم -عليها السلام- في هذا الأمر إلا أن تستسلم لله عز وجل، وتتحصن به في هذا المقام، لعل الله سبحانه أن يجعل لها مخرجًا.
ذات يوم وبينما هي وحدها، أرسل الله إليها الروح الأمين جبريل -عليه السلام- على هيئة بشرية وفي صورة حسنة، فلما رأته خافت وفزعت منه، فلم يكن يدخل عليها المحراب أحد غير زكريا، فتعوذت بالله من هذا الشخص الذي دخل عليها.
فطمئنها جبريل أنه رسول الله إليها، ليهب لها غلامًا طيبًا مباركًا، ونفخ فيها نفخة، فحملت على الفور، ثم اختفى جبريل -عليه السلام-.
ومرت الأيام، وأحست مريم بآلام الحمل، فذهبت إلى مكان بعيد خوفًا من كلام الناس في حقها، وجلست تحت ظل نخلة تفكر في أمرها وما سيكون عليه حالها بعد ولادتها، واقتربت ساعة الولادة، فتمنت أن لو كانت قد ماتت قبل أن يحدث لها ما حدث، ووضعت مريم عيسى -عليه السلام- واحتاجت إلى طعام وشراب حتى تستعيد قوتها ونشاطها، فقد أصابها الضعف بعد الولادة، وفجأة .. سمعت صوتًا يناديها ويأمرها أن تهز جذع النخلة التى تجلس تحتها، وسوف يتساقط عليها الرطب، فتأكل منها حتى تشبع.
وظل هذا الصوت يتكلم، وكأنه يعلم ما يدور في صدر مريم من مخاوف حينما تدخل على أهلها وعلى الناس، وهي تحمل بين ذراعيها طفلاً رضيعًا هي أمه، مع أنها لم تتزوج ولم تعاشر الرجال، فقال لها ذلك الصوت:
{ فإما ترين من البشر أحدًا فقولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًّا } مريم:24-26
وأخذت تتلفت يمينًا ويسارًا لتتعرف على مصدر الصوت الذي يناديها، لكنها لم تجد أحدًا سوى ابنها الذي ولدته منذ لحظات، فتعجبت من ذلك تعجبًا شديدًا، وأدركت على الفور أنها أمام معجزة من معجزات الله العظيمة، ففرحت بابنها فرحًا كبيرًا، وعلمت أن الله سوف يجعل لها بعد هذا الضيق فرجا ًو مخرجا ً.
وتوكلت مريم على ربها، وحملت ابنها الصغير عيسى -عليه السلام- عائدة إلى قومها، وبينما هي تسير، رآها قومها من اليهود فتعجبوا من ذلك وأقبلوا عليها لائمين ومعنفين، وقالوا: { يا مريم لقد جئت شيئًا فريًّا . يا أخت هارون
ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيًّا }مريم:27-28
فأشارت مريم إلى ابنها الرضيع، فتعجب اليهود من أمرها، فكيف سيكلمون هذا الطفل الرضيع؟! فأنطق الله عز وجل عيسى -عليه السلام- فقال: { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا . وجعلني مباركًا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًّا . وبرًّا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًّا . والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا }
مريم:30-33.
ولم تسلم مريم من إشاعات اليهود واتهاماتهم، ولما خافت على نفسها وولدها من غدر اليهود أخذت ابنها، وسارت به إلى مكان بعيد عن قومها، حتى لا يؤذوه ولما كبرت عادت به مرة أخرى إلى بيت لحم في فلسطين موطن ولادة
عيسى، ولما عاد عيسى -عليه السلام- إلى قومه رأى أنهم قد انحرفوا عن المنهج الذي جاء به موسى من قبل، ومن انحرافهم أنهم كانوا يتحرجون من عمل الخير يوم السبت باعتباره يوم عطلة لا يجوز العمل فيه، فيمر عليهم اليوم دون أن يقدموا عملا ًصالحا ًيتقربون به إلى الله.
وأقبلوا على حب المال، فسيطر على نفوسهم وتفكيرهم، وأجبر الكهنةُ الفقراء على النذر للمعبد، ليأخذوه لهم مع علمهم أن الفقراء والمحتاجين في أشد الحاجة إليه، وكان بعضهم ينكر يوم القيامة، ويقولون: لا حساب ولا
عقاب في الآخرة، وفئة أخرى طغت عليها الحياة وحب الدنيا، فأخذوا في ابتزاز أموال الناس بأى شكل وبأية حال، فكانت حاجة المجتمع إلى الإصلاح والهداية شديدة، فأرسل الله إليهم المسيح عيسى -عليه السلام- لهدايتهم إلى المنهج الصحيح، فذهب إليهم يدعوهم إلى عبادة الله، وترك ما هم فيه من جهل وضلال.
وأيد الله تعالى عيسى بالمعجزات العظيمة التى تتناسب مع أهل زمانه، لتكون دليلاً على أنه رسول من ربه، فأعطاه الله القدرة على إحياء الموتى، وشفاء المرضى الذين عجز الأطباء والحكماء عن شفائهم، وأعلمه الله بعض الغيب، فكان يعرف ما يأكل الناس وما يدخرون في بيوتهم، فأخذ عيسى -عليه السلام- يدعو قومه إلى الطريق المستقيم، ويبين لهم المعجزات التى أيده الله بها، فقال: { أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين . ومصدقًا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون } آل عمران: 49-50.
ومع هذه العجائب والمعجزات الخارقة التى جاء بها عيسى إلى بني إسرائيل لم يؤمن به إلا القليل، واستمر أكثرهم على كفرهم وعنادهم بالإضافة إلى أنهم رموه بالسحر، ولم ييأس عيسى -عليه السلام- بل استمر يدعوهم إلى عبادة الله عسى أن يؤمنوا بالله وحده، وطلب عيسى -عليه السلام- من قومه النصرة لدين الله فهدى الله مجموعة من الفقراء والمساكين إلى الإيمان، فكان هؤلاء هم الحواريون الذين اصطفاهم الله؛ ليحملوا دعوة الحق، ويناصروا عيسى، وكان عددهم لا يزيد عن اثني عشر رجلاً.
وذات يوم أمر عيسى -عليه السلام- جميع من معه بصيام ثلاثين يومًا فصاموا، ولما أتموها طلبوا منه أن يدعو الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فنصحهم عيسى أن يتقوا الله في هذا الأمر، فردَّ الحواريون:
{ نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين } المائدة:113
ولما رأى عيسى إصرار الحواريين ومن معهم من بني إسرائيل على طلب مائدة من الرحمن، قام إلى مصلاه، يدعو الله قائلاً: { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين }المائدة:114
نوح
فار التنور
قال تعالى:
{ فأوحينا اليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فاذا جاء أمرنا وفار التنّور فاسلك فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك الا من سبق عليه القول منهم, ولا تخاطبني في الذين ظلموا, انهم مغرقون}. المؤمنون 27.
1- الى من أرسل نوح
كل نبي أرسل لأمة, فموسى لبني اسرائيل, ومحمد لقريش وللعالمين, وصالح لقوم ثمود, وهود الى قوم عاد, وهكذا. وأما نوح فلمن أرسل من القوم؟ أرسل الى أولاد قابيل بن آدم ومن تابعهم من ولد شيت بن آدم (العرائس للثعلبي) وقد تحدث المفسرون عن ذلك فقالوا: كان لآدم نسلان من أولاده أو قبيلتان احداهما تسكن السهل والوادي الأخضر والآخرى تسكن الجبل. وكان للرجال في القبيلة التي تسكن الجبل جمال وروعة أما نساؤهم فكنّ ذوات دمامة وقبح. فالرجال أجمل من النساء كثيرا, أما القبيلة التي تسكن السهل والوادي فكانت نساؤها رائعة الجمال لا يستطيع الرجل أن يمعن النظر فيهن لشدة جمالهن, أما الرجال فكانوا على عكس ذلك فقد كانوا من القبح والدمامة بمكان فلا تطيق أن تعيش معهم من الدمامة والقبح.
واستغل ابليس هذه المفارقة العجيبة وأراد أن يخلطهما ببعض حتى تشيع الفاحشة بينهم, فنزل على رجل من أهل السهل, وجاءه على هيئة غلام ليعمل في بستانه وزرعه, فاستأجره وجعله خادما له, فجاء لبليس بمزمار يحدث صوتا مثل مزامير الرعاة للغنم, وبدأ يحدث به صوتا عاليا ليسمع قبيلة الجبل صوتا غريبا فجاؤوا على هذا الصوت, وأقاموا حفلا جعلوه عيدا كل عام يأتون اليه وبدأت نساء السهل تخرجن متبرّجات وهن على قدر من الجمال_ فرآهن الرجال, وهرع رجل من الجبل الى أصحابه يحكي لهم عن الخبر فتحولوا اليهم ونزلوا معهم وظهرت الفاحشة الكبرى وحقق ابليس ما كان يريده, فلقد أقسم في السماء ليغوينهم أجمعين الا الصالحين منهم والمؤمنين بالله عز وجل.
وكثر بنو قابيل وظهرت المعصية, وأكثروا الفساد وأصبح ابليس وأبنائه بينهم يفعلون بهم ما يريدون ويدعوهم الى المعصية فيستجيبون.
وقد كانت الفترة ما بين وفاة آدم ونوح عليهما السلام حافلة بالايمان والفساد وممن آمنوا وكانوا صالحين: ودّا ويغوث, ويعوق, وسواع, ونسر كانوا قوما صالحين وكان لهم أتباع يقتدون بهم.( تفسير ابن كثير سورة نوح).
وتذكر أن آدم عليه السلام له أربعون ولدا عشرون غلاما وعشرون جارية فكان ممن عاش منهم هابيل وقابيل, وود, كان ود يقال له: شيث ويقال له هبة الله, وقد جعله اخوته رئيسا وسيدا عليهم, وولد له سواع ويغوث ويعوق ونسر.
كان "ود" رجلا صالحا كما ذكرنا, وكان محببا في قومه, فلما مات عكفوا على الجلوس حول قبره في أرض بابل وحزنوا عليه حزنا شديدا وأصبحوا يزورون قبره بصفة دائمة, ورأى ابليس حالهم هذا وجزعهم عليه فأراد أن يستثمر هذا الضعف فيهم فتشبّه بصورة انسان ثم قال لهم: اني أرى جزعكم على هذا الرجل, فهل لكم أن أصوّر لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟.
فقالوا: نعم.
فصنع ابليس صنما مثل "ود" فوضعوه في ناديهم فجعلوا يقدّسون الصنم ويذكرونه صباح مساء.
فلما رأى ابليس ذلك منهم واطمأن الى غيّهم قال لهم في خطوة جعلته يتمكن من عقيدتهم ويفسدهم_قال: هل أجعل لكم في منزل كل منكم تمثالا مثله ليكون له في بيته فتذكرونه, وتعبدونه؟
قالوا: نعم.
فصنع لكل أهل بيت تمثالا مثله, فأقبلوا على هذه التماثيل الأصنام التي حملت اسم الرجل "ود" ولما جاء أبناؤهم أدركوا ما يفعله الآباء, جعلوا يقلّدونهم فيما يصنعون بهذ التماثيل من عبادة وتأليه, وتواليت بعد ذلك أجيالهم وأحفادهم في عبادة الأصنام, ونسوا "ود" الرجل الصالح وجعلوه صنما يعبد من دون الله وبذلك استطاع ابليس أن يحول اسم الرجل الصالح الى رمز للوثنيّة والكفر, فكان "ود" أول ما عبد غير الله, وكان أول صنم يعبد من غير الله اسمه "ود". (قصص الأنبياء لابن كثير).
وقد أضل بهذه الأصنام كثيرا من الأمم فقد استمرّت في عبادتها هذه الأمم قرونا عديدة حتى الى زمان جاهلية العرب قبل الاسلام وقد قال المفسرون (ابن عباس في تفسير ابن كثير): صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ذلك. فمثلا "ود" كان صنما لبني كلاب بن الجندل, وأما سواع فكانت لهزيل, وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف _عند سبأ_ وأما "يعوق" فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي كلاع وكلها قبائل عربية قديمة _ وهي أسماء قديمة لرجال صالحين عاشوا في زمن قبل نوح عليه السلام ما بين آدم ونوح.
وقد كان بين نوح وآدم عليهم السلام عشرة قرون, كلهم على شريعة من الحق, فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين, وقد جاء القرآ، بقوله تعالى:{ وما كان الناس الا أمّة واحدة فاختلفوا} البقرة 213, كانوا على الهدر جميعا فاختلفوا, وزيّن لهم الشيطان عبادة الأصنام, فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين, فكان أول نبي بعث نوح عليه السلام. تاريخ الطبري.
2. مئات السنين:
ان الله تبارك وتعالى لما أجمع القوم على العمل بما يعصيه سبحانه عز وجل ويكرهه من خلقه من ركوب الفواحش وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعته عز وجل. لما رأى منهم كل ذلك أرسل نوحا اليهم وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة, وقيل أربعمائة وثمانين سنة, ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين, وقيل انه دعاهم في نبوته مائة وعشرين سنة. وركب السفينة وهو ابن ستمائة سنة, ثم مكث بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين سنة. تاريخ الطبري.
لبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة الا خمسين عاما كما قال الله عز وجل يدعوهم الى الله سرا وجهرا, فيمضي قرن (مئة سنة) بعد قرن, فلا يستجيبون له حتى مضى على ذلك ثلاثة قرون وهو يدعوهم جهارا نهارا _ وهم من دعوته على حالهم, لا يسمعون له ولا يستجيبون. كان كلما دعاهم هجموا عليه وخنقوه حتى يغشى عليه, ويسقط على الأرض مغشيا عليه, فاذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فانهم لايعلمون, وكان هذا العمل يتكرر دوما سنوات وسنوات وقيل أن نوحا كان يضرب من قومه حتى الوهن والضعف والمرض ويلف في ثياب كأنه مات, ويظن أنه قد مات, ثم يخرج فيدعوهم مرّة أخرى. (العرائس للثعلبي ص 47).
كان يخرج مرّة أخرى ومرات يدعوهم, حتى كان الآباء يقولون للأبناء: قد كان نوح مع آبائنا وأجدادنا, وأجداد أجدادنا _ انه رجل مجنون لم يقبلوا منه دعوة دعاها ونحن لن نقبل دعوة يدعوها.
وذات يوم جاء رجل ومعه ابنا يتوكأ على عصا مما أصابه من الشيخوخة, فقال العجوز لابنه وهو يشير الى نوح:
أنظر يا بني الى هذا الشيخ ايّاك أن يغرّك.
فقال الابن لأبيه: يا أبت أعطني العصا التي تتوكأ عليها. فأعطاه أبوه الشيخ العجوز العصا التي كان يتوكأ عليها وجلس على الأرض, فمشى الابن الى نوح عليه السلام, فضربه عدّة ضربات ولكن نوح عليه السلام لم ييأس وظلّ يدعو قومه عشرات ومئات السنين ولكن دون جدوى.( قصص الأنبياء لابن كثير ص 65).
دعا نوح قومه الى افراد العبادة لله وحده لا شريك له, وألا يعبدوا معه صنما ولا تمثالا ولا طاغوتا وأن يعترفوا بوحدانيّته, وأنه لا اله غيره ولا رب سواه. وقال لهم نوح:
{اعبدوا الله ما لكم من اله غيره, اني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}.
وقال:{ أن لا تعبدوا الا الله, اني أخاف عليكم عذاب يوم أليم}.
وقال لهم نوح:{ ياقوم اني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون}.
ترى بماذا أجابوا نوح بعد أن دعاهم الى الله عز وجل بكل أنواع الدعوة في الليل والنهار, والسر والعلانية, بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى, فلم ينجح كل هذا, واستمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام, ونصبوا لنوح العداوة في كل وقت وأوان, وتنقصوه وسخروا منه.
وقالوا له:{ انا لنراك في ضلال مبين}.
وقال لهم نوح:{ ياقوم ليس بي ضلالة ولكنّي رسول من ربّ العالمين} أي انني لست كما تزعمون من أني ضال, بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين, أي الذي يقول للشيء كن فيكون.
ثم قال نوح:{ أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون}.
هكذا أجابهم نوح في بلاغ وذكاء وكلام مقنع لا جدال فيه.
فقالوا له:{ ما نراك الا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنّكم كاذبين}.
تعجب القوم أن يكون نوح بشرا رسولا, وتنقصوا ممن اتبعه وقالوا: انهم أراذلنا أي: الضعفاء منا, والأقل مكانة ومستوى منا, فنحن أفضل منهم مالا وحسبا ونسبا ولأنهم كذلك يا نوح: ضعفاء فقراء أراذل فقد استجابوا بمجرد ما دعوتهم اليه من غير نظر ولا رويّة ولا تمحيص.
ونسي هؤلاء الكفار أن الحق ظاهر لا يحتاج الى رويّة ولا فكر ولا نظر.
وظلوا يعترضون ويجادلون نوحا ومن آمن معه, فقالوا:
{ وما نرى لكم علينا من فضل} أي: لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالايمان ولا ميّزة علينا.
واتهموه وقومه بالكذب وقالوا:{ بل نظنّكم كاذبين}.
عند هذا الحد تحدث نوح عليه السلام بأنه صادق ولن يلزمهم أو يكرههم على شيء وأنه لا يريد منهم أجرا على دعوته اياهم, وان طلبت أجرا فاني سأطلبه من الله الذي ثوابه وأجره أفضل مما عندكم وخير مما تعطونني, ولن أطرد هؤلاء ولن أبعدهم عني فقد آمنوا بربهم مهما عرضتم من اغراءات.
قال لهم نوح:{ أرأيتم ان كنت على بيّنة من ربي وءاتاني رحمة من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} هود 29.
وقال نوح:{ وما أنا بطارد الذين ءامنوا, انهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون}. هود 29.
وقد تطاول الجدال والزمان بينهم وبين نوح عليه السلام, وكان كلما انقرض جيل منهم وصّ من بعده بعدم الايمان بدعوة نوح ومحاربته ومخالفته, وكان الوالد اذا بلغ ولده وعقل جلس اليه ووصاه فيما بينه وبينه, ألا يؤمن بنوح أبدا ما عاش وما بقي.
وقالوا:{ يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا}. هود 32.
ثم طلبوا معجزات ظنوا أن نوح لن يقدر عليها بأمر الله فقالوا:{ فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين{ هود 32.
وجاء ردّه الأخير:{ ولا ينفعكم نصحي ان أردت أن أنصح لكم ان كان الله يريد أن يغويكم, هو ربّكم واليه ترجعون} هود 34.
وجاء التأكيد من الله عز وجل أنه لا فائدة من هؤلاء فلن يؤمن منهم أحد الا من آمن. وقال الله عز وجلّ لنوح:
{ وأوحى الى نوح أنه لن يؤمن من قومك الا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} هود36.
وبدأ نوح عليه السلام ينتظر أوامر أخرى من ربّه.
3. بدء المعجزة الكبرى:
بدأت المعجزة الكبرى لنوح عليه السلام بحوار جميل بينه وبين ربّه وكان بمثابة تقرير كامل عما كلفه الله به من عمل جاء في هذا الحوار الكريم:
{ قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا* فلم يزدهم دعائي الا فرارا * واني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا * ثمّ اني دعوتهم جهارا * ثم اني أعلنت لهم وأسررت لهم اسرارا * فقلت استغفروا ربّكم انه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا} نوح 5-11.
وظلّ نوح عليه السلام يذكر لقومه ما دعاهم اليه, ويصوّر لهم عظمة الله في خلقه, ويبيّن لهم نعم الله عليهم _ ولم يكن لهذا اجابة أو سبيل_ فقد ضلوا ضلالا شديدا, وزاد فسادهم وخبثهم مع كثرة جدالهم واحساسهم بأنهم الأكثر فهما وعلما من نوح وهنا قدّم نوح عليه السلام نتائج عمله طوال مئات السنين وصبره على أجيال وأجيال منهم, فدعا ربه أن يهلكهم حتى لا يفسدوا في الأرض ويضلوا غيرهم ضلالا بعيدا وقال:
{ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا * انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا} نوح 26-27.
وجاء الأمر الكريم الذي حمل في طيّاته معجزات عظيمة.
قال الله تعالى لنوح عليه السلام:
{ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} هود 37.
ولربما قال نوح: يا رب وما الفلك؟
فقال له: بيت من خشب يجري على وجه الماء حتى أغرق أهل المعصية وأريح أرضي منهم.
ربما سأل نوح عن الماء, وهو يعلم أن الله على كل شيء قدير.
وقيل ان نوحا سأل عن الخشب, فأمره ربّه بغرس شجر الساج كثير الخشب عظيم الأصول والفروع, فأمره الله تعالى بذلك وظلّ يغرس ويغرس وانتظر أربعين عاما حتى أصبح الشجر غابات هائلة. وفي هذه السنوات توقف نوح عن دعوة قومه الى عبادة الله فلم يدعهم فأعقم الله تعالى أرحام نسائهم فلم يولد لهم ولد, فلما كبر الشجر أمره ربه أن يقطع الشجر فقطعه وجففه ثم قال: يا رب كيف أتخذ هذا البيت أي كيف أصنع هذه السفينة؟ فقال له: اجعله مائلا على ثلاث صور رأسه كرأس الديك وجوفه كجوف الطير وذنبه كذنب الديك مائلا واجعلها متطابقة واجعل أبوابها في جنبيها واجعلها ثلاث طبقات واجعل طولها ثمانين ذراعا وارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعا. أورد هذا الثعلبي في العرائس وقال أن هذا قول أهل الكتاب .ص 47-48.
هذا المجنون يتخذ بيتا يسير به على الماء_ يقصدون السفينة_ ثم يضحكون.
وقد جاءت صورة هذا المشهد في القرآن الكريم في قوله تعالى: { ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه} هود 39. أي يستهزئون به وقد استبعدوا أن يحدث ما توعّدهم به.
فيجيب عليهم نوح قائلا: { قال ان تسخروا منّا فانّا نسخر منكم كما تسخرون}. هود 39.
ثم أضاف موضحا ما توعّدهم بأنه وقومه سوف يسخر منهم ويتعجب منهم من استمرارهم على كفرهم وعنادهم الذي سوف يقتضي وقوع العذاب بهم وحلوله عليهم لاحقا (قصص الأنبياء لابن كثير ص 180), مؤكدا وقوع ذلك بقوله:{ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم} هود 39.
وأوحى الله الى نوح عليه السلام أن عجّل صنعة الفلك, وانته من صناعة السفينة, فقد اشتد غضبا على من عصاه _ عند ذلك استأجر نوح أجراء وعمّال يعملون معه في صنع السفينة وأولاده سام وحام ويافث ينحتون معه السفينة فجعلها ستمائة وستين ذراعا للطول وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعا وطولها في السماء ثلاثة وثلاثين ذراعا وطلاها بالقار داخلها وخارجها بعد أن فجر الله له عين القار بجوار السفينة تغلي غليانا وشدّها بالمسامير الحديد وطلاها كلها بالقار, وجاء في قوله عن المسامير الحديد:{ وحملناه على ذات ألواح ودسر}.
وقد كان عيسى بن مريم يحيي الموتى بأمر الله, فقال له الحواريون: لو بعثت لنا رجلا من قبره يكون قد رأى سفينة نوح فيحدثنا عنها! فانطلق عيسى عليه السلام والحواريون خلفه حتى وصل الى كثيب من تراب, فأخذ حفنة من التراب وقال: أتدرون ما هذا التراب؟
قالوا: الله ورسوله أعلم!!
قال عليه السلام: هذا قبر حام بن نوح, فضرب التراب بعصاه وقال: قم باذن الله, فاذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه, وقد شاب شعره وأصبح شيخا عجوزا, فقال له عيسى عليه السلام: أهكذا مت وهلكت؟
فقال حام بن نوح: لا, ولكني مت وأنا شاب؛ ولكني ظننت أنه الساعة (يوم القيامة) فشبت من الخوف.
فقال عيسى عليه السلام: حدّثنا عن سفينة نوح.
قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات: فطبقة فيها الدواب والوحوش, وطبقة فيها الانس, وطبقة فيها الطير.
فلما كثر ارواث الدواب أوحى الله الى نوح أن اغمز ذنب الفيل, فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة, فأقبلا على روث الحيوانات. رواية الطبري في تاريخه عن ابن عباس ج 1 ص 181 طبعة احياء التراث.
4. فار التنور:
نعود الى نوح عليه السلام.
انتهى نوح من السفينة فبناها, وأعدها كما يجب, وما بقي الا ايجاد البحر الذي ستبحر عليه وتتطهر الأرض بمائه من دنس الكفار.
حدّد الله مكان وزمان البداية بأمر عظيم وكريم, فجعل خروج الماء من التنور وفورانه هو بداية المعجزة الكبرى التي هزت الدنيا بأسرها, وقد كانت كلمة السر أو علامة السر هي فوران التنور, وقد قالوا عن فوران التنور عدة أقوال أولها: أنه طلوع الفجر وبزوغ الصباح.
وأشهر ما قيل في التنور أنه مكان صناعة الخبز, وكان فرنا أو تنورا من حجارة, وكان لآدم ثم انتقل الى نوح فقيل له: اذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك. فنبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته وقالت له: لقد فار الماء من التنور.
وقيل ان التنور فار في الكوفة, وقيل بالشام في موضع اسمه عين الورق, وقيل انه بالهند. تاريخ الطبري ج1 ص 182 والعرائس للثعلبي ص 48.
فلما رأى نوح فوران التنور علم أنها البداية, بداية هلاك قومه.
كان فوران الماء علما واخبارا لنوح عليه السلام ببداية معجزته كنبي ودليلا على هلاك قومه_ كان الأمر الرباني من جزئين:
الجزء الأول: اشارة البدء المتفق عليها والموصى بها لنوح عليه السلام وهي فوران التنور.
أما الجزء الثاني قكان كما ذكرت الآية الكريمة:{ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك الا من سبق عليه القول ومن ءامن, وما ءامن معه الا قليل} هود 40.
وقد قال المفسرون: ان الله أرسل المطر أربعين يوما وليلة فأقبلت الوحوش والطير والدواب الى نوح حين أصابها المطر, وسخرت له, فحمل كل منها كما أمره الله عز وجل:{ من كل زوجين اثنين} وبدأ في ادخال الحيوانات والطيور وكان آخر ما حمل الحمار فلما دخل الحمار بصدره تعلق ابليس بذنبه أو ذيله فلم تستقل رجلاه فجعل نوح يقول ادخل فينهض فلا يستطيع _ حتى قيل ان نوح قال: ويحك ادخل وان كان الشيطان معك _ كلمة زلّ بها لسان نوح فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان معه. فقال له نوح: ما أدخلك يا عدو الله _ فقال الشيطان: ألم تقل أدخل ولو كان الشيطان معك؟ّ!
قال نوح: أخرج يا عدو الله..
فقال: ما أخرج _ وزعم المؤرخون أنه أي الشيطان كان في الفلك. عرائس المجالس ص 49.
وقيل ان الحيّة والعقرب أتيا نوح فقالا: احملنا فقال: انكما سبب الضرر والبلايا فلا أحملكما.
قالا: احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك, فمن قرأ حين يخاف مضرتهما ( الحية والعقرب) من قرأ:{ سلام على نوح من العالمين * انا كذلك نجزي المحسنين * انه من عبادنا المؤمنين} لم يضراه أو يصيبه أذى أبدا.
وقيل ان نوح عليه السلام قال: يا رب كيف أصنع بالأسد والبقر, وكيف أصنع بالعناق والذئاب, وكيف أصنع بالحمام والقط؟
قال الله تعالى لنوح: من ألقى بينهم العداوة يا نوح؟
قال نوح عليه السلام: أنت يا رب العالمين.
فقال عز وجلّ لنوح: فأنا الذي أؤلف بينهم حتى لا يتضاروا ولا يضرّ بعضهم بعضا.
فحمل نوح عليه السلام السباع والدواب في الطبقة الأولى.
فألقى الله على الأسد الحمى وشغله بنفسه عن الدواب والبقر.
وجعل الوحوش في الطابق الثاني من السفينة, وركب هو ومن معه من أولاد آدم في الطبقة العليا.
وهبط جبريل هليه السلام الى الأرض.. وحمل الى نوح عليه السلام في السفينة من كل حيوان وطير ووحش زوجين اثنين, بقرة وثورا, فيلا وفيلة, عصفورا وعصفورة, نمرا ونمرة, قطا وقطة.. الى آخر المخلوقات.
كان نوح عليه السلام قد صنع أقفاصا للوحوش وهو يصنع السفينة.. وساق جبريل عليه السلام أمامه من كل زوجين اثنين, لضمان بقاء نوع الحيوان والطير على الأرض.
وهذ دليل على أن الطوفان أغرق الأرض كلها, فلولا ذلك ما كان معنى لحمل كل هذه الأنواع من المخلوقات حيوان وطير_ أليف وغير أليف صعدت كل هذه الحيوانات والوحوش والطيور كما ذكرنا, وصعد الذين آمنوا مع نوح, قيل انهم كانوا ثمانين انسانا. ابن عباس , العرائس ص49.
كان عدد المؤمنين قليلا.
فقد جاء تأكيد ذلك في الآية الكريمة: { وأهلك الا من سبق عليه القول ومن ءامن, وما ءامن معه الا قليل}. هود40.
انتهى كل هذا وأصبحت السفينة جاهزة على الأرض. وانتظر نوح ومن معه أمر الله سبحانه عز وجلّ, وقد جعل الله فوران التنّور آية بينه وبين نوح وعهد الله اليه فقال: اذا رأيت التنور قد فار فاركب أنت ومن معك على الفلك واحمل فيها من كل زوجين اثنين كما قال الله تعالى:{ حتى اذا جاء أمرنا وفار التنور}.
منقـــول . . . .