التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

أعطيت جوامع الكلم من السنة

من مظاهر عظمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلائل نبوته أنه صاحب الحكمة البالغة ، والكلمة الصادقة ، واللسان المبين ، وقد فضله الله ـ عز وجل ـ على غيره من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بأن أعطاه جوامع الكلم، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتكلم بالكلام الموجز ، القليل اللفظ الكثير المعاني ، وهو ما يسره الله له من البلاغة والفصاحة ، وبدائع الحكم ومحاسن العبارات ..
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( فُضِّلتُ على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون )( مسلم ) .
وإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اتصف بصفات لم تجتمع لأحد قبله ولا بعده ، فقد كان أفصح الناس ، وأعذبهم كلاماً ، وأحلاهم منطقا ، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويأسر الأرواح ، يعده العاد ، ليس بسريع لا يُحفظ ، ولا بكلام منقطع لا يُدركُه السامع ، بل هديه فيه أكمل الهدي ، شهد له بذلك كل من سمعه ، ووصفته أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ بقولها : ( ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصل، يحفظه من جلس إليه ) ( الترمذي ).
وهذه الخاصية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، جعلت الكثير من فقهاء الإسلام يختارون من أحاديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض الأحاديث القليلة التي لو أضيفت بعضها إلى بعض فإنها تعبر عن الإسلام بكامله . ومن أمثلة ذلك ما فعله الإمام أحمد بن حنبل حين قال : " أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ : ( إنما الأعمال بالنيات )( البخاري ) ، وحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( من أحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس فيه، فَهُوَ رَد )( البخاري )، وحديث النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ : ( الحلال بَيِّنٌ والحرام بين )( البخاري ) " .
قال العز بن عبد السلام : " ومن خصائصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه بعث بجوامع الكلم، واختصر له الحديث اختصاراً، وفاق العرب في فصاحته وبلاغته " ..
وقال ابن شهاب فيما نقله البخاري في صحيحه : " بلغني في جوامع الكلم أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله .." .
وقال سليمان النوفلي : " كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتكلم بالكلام القليل يجمع به المعاني الكثيرة " ..

وجوامع الكلم التي خُص بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نوعين كما ذكر ذلك ابن رجب الحنبلي فقال:" أحدهما : ما هو في القرآن كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }(النحل:90)، قال الحسن البصري : " لم تترك هذه الآية خيراً إلا أمرت به ، ولا شراً إلا نهت عنه " .. الثاني : ما هو في كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه ، ومن ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى )(البخاري) ، قال الشافعي : " هذا الحديث ثلث العلم ، ويدخل في سبعين بابا من الفقه " .
وعن فصاحته وبلاغته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول القاضي عياض : " وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول ، فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك بالمحل الأفضل ، والموضع الذي لا يجهل ، سلاسة طبع ، وبراعة منزع ، وإيجاز مقطع ، ونصاعة لفظ ، وجزالة قول ، وصحة معان ، وقلة تكلف … أوتى جوامع الكلم، وخُصَّ ببدائع الحكم ، وعلم ألسنة العرب ، فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها ، ويحاورها بلغتها ، ويباريها في منزع بلاغتها ، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله .." .
وعن كلامه المعتاد يقول : " وأما كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة ، وجامع كلمه وحكمه المأثورة ، فقد ألف الناس فيها الدواوين ، وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب ، ومنها ما لا يوازى فصاحة ، ولا يبارى بلاغة "..

ثم ذكر رحمه الله أمثلة كثيرة من أقواله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تؤيد ذلك، منها : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن )( الترمذي ) ، وقوله : ( الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ ، قال : لله عز وجل ، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )( البخاري ) ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )( أحمد ) ، ( المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد واحدة على من سواهم )( أبو داود ) ، ( الناس معادن )( البخاري ) ، ( المستشار مؤتمن )( أبو داود ) ، ( ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم ، أو سكت عن شر فسلم )( أبو داود ) ، ( أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين )( البخاري ) ، ( الظلم ظلمات )( مسلم ) .. إلى غير ذلك مما روته الكافة عن الكافة ، من مقاماته ومحاضراته ، وخطبه وأدعيته ، ومخاطباته وعهوده ، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس بها غيره ، وحاز فيها سبقا لا يُقدر قدره .." ..
ومن بلاغته وفصاحته وجوامع كلمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قاله من الكلم الذي لم يُسْبق إليه ، ولا قاله أحد قبله ، كقوله: ( لا يلدغ المؤمن من جُحْر مرتين )( البخاري ) ، ( حمي الوطيس ) ( أحمد ) .. قال جابر ـ رضي الله عنه ـ: " والله إنها كلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " . وحمي الوطيس أي اشتدت الحرب ..
إن بلاغة وفصاحة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجوامع كلامه ، لا عجب فيها ولا غرابة إذ خصه الله ـ عز وجل ـ بالعناية ، وفضله على سائر خلقه ، وهيأه للوحي ، وحمله البلاغ والبيان ، ففصاحة لسانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ غاية لا يُدْرك مداها ، ومنزلة لا يدانى منتهاها ، فهو أفصح خلق الله إذا تكلم ، كلامه كله يثمر علما ، ويمتثل شرعا وحكما ، ولا يتكلم بَشَر بكلام أحكم منه في مقالته ، وحري بمن عبر عن مراد الله بلسانه ، وأقام الحجة على عباده ببيانه ، وبين مواضع فروضه ، وأوامره ونواهيه ، أن يكون أحكم الخلق بيانا ، وأفصحهم لسانا .. ومن ثم كانت أحاديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذاتها قواعد كلية جاهزة أو قابلة لأن تصاغ منها القواعد والأصول الفقهيّة ..
وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته وبلاغته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى شاهد ، ولا ينكرها موافق ولا معاند ، وكيف لا يكون كذلك وهو خاتم النبيين ، وسيد المرسلين، وعلى قلبه نزل القرآن العظيم ، وقد زكَّى الله تعالى قوله ونطقه فقال : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى }(النجم 4:3) وقال سبحانه : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } (الشعراء 193: 195) .. فأوتي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا ، وجمع الله له المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة يسيرة ، ليسهل حفظها وتبليغها ، وجعل ذلك من أدلة نبوته ، وأعلام رسالته ، وكل هذا من الحفظ الذي تكفل الله به لهذا الدين …



موقع مقالات اسلام ويب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

تصحيح المفاهيم كما جاء في السنة النبوية – سنة النبي

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

********


تصحيح المفاهيم كما جآء في السنة النبوية

نهج النّبي (صل الله عليه وسلم) نهجَ القرآن الكريم في إيضاح أبعاد بعض المفاهيم وتجلية المُراد الحقيقي منها، ولذلك فحينما كان يسأل المسلمين عن مفهوم معيّن، فإنّهم غالباً ما كانوا يعطونه المفهوم الدّارج لديهم أو المعنى اللّغوي للمفهوم، وفيما يلي بعض الأمثلة:

أ- مَن هو المجنون؟

مرّ برسول الله (صل الله عليه وسلم) رجلٌ في أصحابه، فقال بعض القوم (من أصحاب النبي): مجنون! فقال النبي (صل الله عليه وسلم): بل هذا رجلٌ مُصاب، إنّما المجنون عبدٌ (رجل) أو أمَةٌ (إمرأة) أبليا (أمضيا) شبابهما في غير طاعة الله!
وفي روايةٍ أخرى: "إنّما المجنون مَن آثرَ الدنيا على الآخرة"، وفي أخرى: "المُتبختر في مشيته، النّاظر في عطفيه، المُحرِّك جنبيه بمنكبيه، فذاك (المجنون) وهذا (المُبتلى)"!!

ب- (العبد) و(الأمَة)

كان الناس في الجاهلية يستخدمون كلمة (العبد) للخادم و(الأمَة) للخادمة، لكنّ النبي (صل الله عليه وسلم) صحّح للناس مفهوم الخدمة، فقال: "لا يقولنّ أحدكم: (عبدي) ولا (أمَتي).. كلّكم عبيد الله، وكلّ نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: (غُلامي) و(جاريتي) و(خادمي) و(فتياني)"!
لأنّ المسألة ليست مجرّد تغيير لفظة بلفظة، بل بمصطلح فيه تعالي بمصطلح فيه إنسانيّة، وممّا يُذكر في هذا الصدد أنّه قبل بضع سنوات، اقترحَ البعض في الهند استبدال مصطلح (أرملة) بمصطلح (زوجة الفقيد) أو (زوجة الراحل)، لأنّ في الثاني تخفيف وتلطيف من خلال الإحتفاظ بكلمة (زوجة) ولو من ناحية اعتباريّة.

ت- مَن هو الشّجاع؟

رأى رسول الله (صل الله عليه وسلم) من الشّبّان يتصارعون، فلمّا سألهم، قالوا: نختبر أشدّنا وأقوانا. فقال (صل الله عليه وسلم): "لا أخبركُم بأشدِّكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أشدّكم وأقواكم، الذي إذا رضيَ لم يُدخلهُ رضاه في إثمٍ ولا باطل، وإذا سخطَ لم يُخرجهُ سخطه من قول الحق، وإذا قدرَ لم يتعاطَ ما ليسَ له بحقّ".

ث- (الأنا)

يقول جابر بن عبدالله الأنصاري: أتيتُ النبي (صل الله عليه وسلم)، فدعوت (ناديت)، فقال (صل الله عليه وسلم): مَن هذا؟ قلت: أنا! فخرجَ (صل الله عليه وسلم) وهو يقول: "أنا، أنا!"، أي مُستنكراً قول (أنا)، لأنّ فيه رائحة الأنانيّة والإعجاب بالنفس.
ولذلك يُستحسَن أن تزد على السائل: مَن؟ أو مَن أنت؟ بأن تذكر له إسمك، وبدلاً من أن تشيد بنفسك وتُكرِّر قول: أنا قلت.. أنا فعلت.. أن تقول: هناك رأي.. هناك قول.. هناك وجهة نظر.. البعض يرى..

ج- مَن المُفلِس؟

سأل النبي (صل الله عليه وسلم) أصحابه ذات يوم: مَن المُفلِس؟ فقيل له: الذي لا دينار عنده ولا درهم ولا متاع له (أي ليس لديه شيء من المال)، فقال: "بل المُفلِس الذي أكلت سيِّئاته حسناته".
فحينما لا يبقى عندكَ في يوم القيامة رصيد من الحسنات، لتُدافع بها عن نفسك وتدفع اتهامات الناس عنك، لأنّها لا تُدفع للغُرماء والخُصماء، فقد يتحوّلون إلى سيِّئات الآخرين ليضيفوها إلى سيِّئاتك. فأيّ (إفلاس) أشهَر وآلَم وأفضَع من هذا؟!

ح- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قيل: يا رسول الله! لا نأمر بالمعروف حتى لا يبقى منه شيء إلّا عملنا به، ولا ننهى عن المنكر حتى لا يبقى منه شيء إلّا انتهينا عنه؟
قال: "لا، بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كلّه، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كلّه".
أي لابدّ للآمِرِ بالمعروف والناهي عن المنكر من المسلمين أن يكون قد توافر على جانبٍ منهما ليكفي القول فيه أنّه قادر على (الأمر) وعلى (النهي)، وإنّما الإشكال في الذين لا يأتمرون نهائيّاً ولا ينتهون أبداً، وهؤلاء يصدق فيهم قول الله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2)، وقوله عزّ وجلّ: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة/ 44).

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

سبقت العضباء

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " كانت ناقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم – تسمى العضباء، وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتدّ ذلك على المسلمين وقالوا : سبقت العضباء، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ( إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه ) رواه البخاري .
معاني المفردات
قَعود: البكر من الإبل حتى يُركب.
تفاصيل الموقف
قد يظنّ البعض ممن يستعرض حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – أنها صفحاتٌ سُطّرت – وبشكل كامل – بمداد من الجدّية والعمل والمثابرة، والصبر والمصابرة، والجهاد والتضحية، على نحوٍ لم يترك للراحة والاستجمام موضعاً، ولا للأنس واللهو البريء موطناً، خاطرٌ قد يكون مبعثه مداومة النظر في غزواته عليه الصلاة والسلام وفتوحاته دون الالتفات إلى غيرها.
لكن واقع الأمر غير ذلك، فإنسانيّة نبيّنا – صلى الله عليه وسلم – كانت حاضرةً في تعامله مع الناس حوله، على نحوٍ يتوّج سيرته العطرة، ويضيف إليها كمالاً من كمالاتها، ولئن كان ملوك الأرض ورؤساء القوم يستمدّون مكانتهم من الاستعلاء على شعوبهم، والإغراق في بهارج الحياة وزخرفها، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام نفذت محبّته شغاف القلوب، بما حقّقه من التوفيق بين مقامات النبوّة ودواعي الإنسانيّة، وما يقتضيه ذلك من مخالطة الناس ومعايشتهم، وتُرجم ذلك النجاح في مواقف عدّة نراه فيها يسامر أصحابه ويجالسهم، يداعب هذا ويمازح ذاك، ويحضر أفراح الناس ومناسباتهم، بل ولا يجد في مشاركة الناس في لهوهم وسباقاتهم غضّاً من هيبته أو إنقاصاً من منزلته.
وفي هذا السياق تروي لنا الأخبار من شأن النبي – صلى الله عليه وسلم – مع ناقته "العضباء" عجباً، تلك الناقة التي أثبتت الأيام سرعتها وقوّتها في كلّ السباقات التي كان فيها للنبي عليه الصلاة والسلام حضور، حتى استقرّ في أذهان أصحابه ألاّ طاقة لأحدٍ في التفوّق عليها، أو نزع لقب الصدارة عنها.
وظلّ الأمر على حاله حتى جاء اليوم الذي قدم فيه أعرابي من البادية، قطع الفيافي والقفار ليُقابل النبي – صلى الله عليه وسلم – في شأنٍ من شؤونه، وكانت تلك عادةٌ متّبعة من الأعراب أن يفدوا على رسول الله عليه الصلاة والسلام بين الحين والآخر، يسألونه في دينهم أو يطلبون بُلغةً لدنياهم.
وتجاذب الأعرابي طرف الحديث مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في مختلف الأمور، ولعلّ مسار الحوار قادهم إلى ذكر " العضباء" وتميّزها لتنشأ الرغبة المشتركة في إجراء منافسة جديدة مع ذلك الوافد البعيد .
وطار الخبر بين الناس كأسرع ما يكون، وتناقلت الألسنة أنّ سباقاً فريداً على وشك أن تدور رحاه، وتقاطر الصحابة من أنحاء المدينة إلى الميدان المشهود، ليروا النبي – صلى الله عليه وسلم – معتلياً " العضباء " وبجواره الأعرابي على ناقته اليافعة، والكل في ترقّب وإرهاف سمع لإشارة البدء، وبدأ السباق لتنطلق الناقتان بكل ما تملكان من قوّة، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يستحثّ "العضباء" كي تُسرع، وتصاعد الغبار وانطلقت هتافات التشجيع من هنا وهناك.
ويبدو أن الناقة التي جاء بها الأعرابي كانت أقلّ سنّاً وأكثر حيويّة، ما جعل المسافة بين الأعرابيّ وبين النبي – صلى الله عليه وسلم – تتقلّص، حتى استطاع أن يتجاوزه، وانتهى السباق على غير المتوقّع بفوز الأعرابي!
لم يستفق الصحابة رضوان الله عليهم من هول النتيجة، غيرةً منهم على صدارة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تمسّ، واستبدّت بهم مشاعر الإحباط، وبلغ منهم الحزن كلّ مبلغ، وإن كأس الهزيمة لمرير.
ورأى النبي – صلى الله عليه وسلم – ملامح الوجوه من حوله، فأدرك ما يعتمل في نفوس أصحابها من الألم الممضّ، وأراد استثمار الموقف، ليقرّر سنّة إلهيّة لا تتغيّر ولا تتبدّل : (إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه) .
إضاءات حول الموقف
يقدّم النبي – صلى الله عليه وسلم – بين يدي أصحابه حقيقةً كونيّة، كفيلة لمن تأمّلها وجعلها نصب عينية أن تكون سبباً في إقباله على الطاعة، وزهده في الدنيا، والتصاقه بركن الله، وبراءته من حوله وقوّته.
إنها إيماءةٌ نبويّة لطيفة، تبيّن أن حال الدنيا لا يدوم على حال، وأنها لا تبقى لأحد، تدور كما يدور الماء إذا غلى في المرجل، وأن أحوالها في تقلّب دائمٍ كحال ريشةٍ في مهبّ الريح، وإنما الأيّام دول. فمن تراه اليوم ملكاً غنيّاً، قد تراه غداً فقيراً معدماً، ومن تبصره يُفاخر بقوّته ويتبجّح بشدّته، سيأتي عليه يومٌ يكون فيه طريح الفراش، لا حول له ولا قوّة، ولنا في قول الحقّ تبارك وتعالى : {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة } (اليوم:54) وقوله : { وتلك الأيام نداولها بين الناس} ( آل عمران : 140).
وهذه السنّة ليست مقتصرةً على أحوال الأفراد، بل هي عامّة في الأمم على مختلف العصور، وإنك لترى حضارة قد بلغت أوجّ مجدها، فإذا بعوامل الضعف تدبّ فيها وتنخر بنيانها مؤذنةً بانهيارها، وما أخبار "عاد" عنّا ببعيد.
وإن في سنن "المداولة بين الناس " لعبراً، وفي تقلّب الأوضاع والأحوال لمزدجراً، يمنع اللبيب من الافتتان بزهرة الدنيا الفانية، ويحرّضه على اغتنام شبابه قبل هرمه، وصحتّه قبل سقمه، وغناه قبل فقره، وفراغه قبل شغله، وحياته قبل موته.
ومما يستوقفنا هنا : عمق الإحساس الوجداني لدى النبي – صلى الله عليه وسلم – بآلام الناس ومشاعرهم، دون الحاجة إلى التعبير عنها بألفاظهم، وإن إدراك هذه القضيّة ضروري لأولئك الذين يتصدّرون مجالات الدعوة ويخالطون الناس.
وفي الحديث –فوق ما تقدّم – بيان حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه، والتأكيد على جواز اتخاذ الإبل للركوب والمسابقة عليها.



موقع مقالات اسلام ويب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

الرحمة و مواجهة المشكلات – سنة النبي

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لكل الناس، رحمة لأصحاب الأمراض، رحمة للمخطئين، رحمة للعصاة، رحمة للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).

وكان من رحمته أن يعيش مع الأزمات وأصحابها، يأخذ بيد هذا، ويعالج مشكلة هذا، ويصبر على هذه، ينزع فتيل الأزمة حتى لا تنفجر في الجميع. فكان على يده نجاة المجتمع بأكلمه من حرب واقفة على الأبواب. يعلم صلى الله عليه وسلم كيف تكون حالة يعاني الإنسان في أزمته فتعامل بكل كيانه معها، يساعد صاحبها، ويحنو عليه حتى يخرج مما هو فيه.

مشكلة الحجر الأسود

يقول العلامة د. علي جمعة: "كان عليه السلام بفطنته ينهي منازع الخلاف بشكل قاطع, مع حماية المجتمع الإسلامي من آثار الأزمة, بل يعمل على الاستفادة من الموقف الناتج عن الأزمة في الإصلاح والتطوير, واتخاذ إجراءات الوقاية لمنع تكرار الأزمة أو حدوث أزمات مشابهة لها، وإنك لتري آثار هذه الحكمة في تلك المعالجات في السيرة النبوية الشريفة قبل البعثة وبعدها".

وهنا يقول ابن هشام في سيرته: "إن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان عائذ أسن قريش كلها؛ قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد ؛ فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبا، فأُتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده. ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده ، ثم بنى عليه"رواه أيضا أحمد، و الحاكم في المستدرك، وابن كثير في البداية، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه(أي الشيخين في الصحيحين).

ويعلق فضيلة الشيخ د. علي جمعة على ذلك: "وبهذا التفكير السليم والرأي الصائب حسم صلى الله عليه وسلم الخلاف بين قبائل مكة, وأرضاهم جميعا, وجنب بلده وقومه حربا ضروسا شحذت كل قبيلة فيها أسنتها".

الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحاب الأزمات:

وكم شعر النبي صلى الله عليه وسلم بأصحاب الأزمات وعاش معهم معاناتهم، بل وبذل وسعه في إخراجهم من أزماتهم، وعلى سبيل المثال:

يقول د. راغب السرجاني: "ومن أهم الأزمات التي لا بد لكل بشر أن يقع فيها أزمة المرض". ويقول: "كان الرسول إذا سمع بمريض أسرع لعيادته في بيته، مع كثرة همومه ومشاغله، ولم تكن زيارته هذه مُتكلَفة أو اضطرارية، إنما كان يشعر بواجبه ناحية هذا المريض. كيف لا، وهو الذي جعل زيارة المريض حقًّا من حقوقه؟!… قال رسول الله: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ" متفق عليه.

كارثة التبول في المسجد

وإليك كارثة وقعت أمام خير الورى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، بال الأعرابي في المسجد، نعم بال، كارثة، تخيلتها حقيقة وصعب عليّ تخيلها، ولكن تراه صلى الله عليه وسلم فاق حد التخيل في رد فعله، والحديث في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي. فقام يبول في المسجد. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزرموه. دعوه" فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر. إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه".

لقد تجاوز النبي صلى الله عليه وسلم أزمة كادت أن تراق فيه دماء، ولكنه صلى الله عليه وسلم علم الرجل أمر دينه بكل رفق ولين.

وهنا يكتب أحد المبدعين: "لقد أبعد عليه الصلاة والســلام الحاجز الضبابي عن عين المخطئ: المخطئ أحياناً لا يشعر أنه مخطئ، وإذا كان بهذه الحالة وتلك الصفة فمن الصعب أن توجه له لوماً مباشراً وعتاباً قاسياً، وهو يرى أنه مصيب. إذن لابد أن يشعر أنه مخطئ أولاً، حتى يبحث هو عن الصواب؛ لذا لابد أن نزيل الغشاوة عن عينه ليبصر الخطأ، وعندما نعرف كيف يفكر الآخرون، ومن أي قاعدة ينطلقون، فنحن بذلك قد عثرنا على نصف الحل. حاول أن تضع نفسك موضع المخطئ، وفـكــــر من وجهة نظره هو، وفكر في الخيارات الممكنة التي يمكن أن يتقبلها، فاختر له ما يناسبه".

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

الجزيرة العربية الحالة السياسية والاقتصادية عند ظهور الاسلام – سنة النبي

إن السيرة النيوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عبارة- في الحقيقة -عن الرسالة التي حملها الى البشرية، وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولا يمكن استحضار صورتها الرائعة بتمامها إلا بالنظر إلى واقع العالم قبلها – أعني رسالة الإسلام – خاصة الجزيرة العربية، وماكان فيها من خلل كبير في جميع النواحي، مما سنقف عليه في مقالنا التالي:

1- الحالة السياسية والاقتصادية:
كانت شبه جزيرة العرب مفككة سياسياً لا توحدها دولة , ولا تديرها حكومة , وكانت الدول القديمة التي قامت في اليمن ونجد وأطراف العراق والشام قد اندثرت , وطغت البداوة على المدن الباقية في الحجاز , فكانت القبيلة هي الوحدة السياسية والإجتماعية , وكانت مكة تدار من قبل الملأ في دار الندوة.

والمدينة في حالة نزاع دائم بين الأوس والخزرج تمخض عن ذلك محاولة إنشاء حكم ملكي , لكن انتشار الإسلام فيها حال دون ذلك.

أما دولة المناذرة في الحيرة ودولة الغساسنة في الأردن والجولان فقد سمح الفرس والروم للدولتين بالنشوء لتكونا دولتين حاجزتين تصدان عنهما غزو القبائل العربية , وتتوليان حماية القوافل التجارية . وقد أسقط الفرس دولة المناذرة سنة 602م قبل البعثة المحمدية بثمان سنوات .

– أما الأحوال الاقتصادية في شبه جزيرة العرب , فقد كانت البادية تعتمد على الاقتصاد الرعوي , فالقبائل العربية تستقر في الأماكن التي يتوفر فيها الماء وتصلح لرعي الإبل والأغنام والماعز .

وعندما يشح الماء فإنها تضطر للانتقال مما يجعلها في حروب مع بعضها للحصول على المورد الأفضل . وتوجد في شبه جزيرة العرب واحات زراعية متناثرة يستقر فيها السكان لكنها عرضة لغزو البدو لها .

ويقوم في المدن نشاط تجاري وزراعي وصناعي , وقد يغلب عليها نوع من هذه النشاطات , فمكة كان يغلب عليها النشاط التجاري ؛ لأنها تقع بواد غير ذي زرع , وتتحكم بطرق التجارة بين اليمن والشام حيث تمر القوافل محملة بالتوابل والبخور والعطور , وقد استفادت مكة من مكانة الكعبة الدينية عند العرب في حماية قوافلها التجارية وعقد " الإيلاف " مع القبائل التي تجتاز ديارها , واشتهرت برحلة الصيف الى الشام ورحلة الشتاء الى اليمن .

أما المدينة – وكانت تعرف قبل الإسلام بيثرب – فكان يغلب عليها الاقتصاد الزراعي حيث اشتهرت ببساتين النخيل والأعناب والفواكه الأخرى والحبوب و الخضروات.

أما الطائف فقد غلبت عليها الزراعة وخاصة بساتين الأعناب والفواكه و الخضروات , وكذلك الصيد حيث تتوافر فيها الحيوانات البرية كالبقر الوحشي والحمار الوحشي والغزلان والظباء والأرانب.
وأما اليمامة فاشتهرت بزراعة القمح الذين كان يزيد عن حاجاتها فتصدر منه إلى الحجاز .

وأما اليمن ففيها زراعة واسعة ومناطق رعوية طبيعية إضافة إلى قيامها بالنشاط التجاري الكبير بنقل التوابل والبخور والعطور والأبنوس والعاج والحرير من الهند إلى بلاد العرب والشام .

وكانت السواحل الشرقية لشبه جزيرة العرب تربط تجارة الصين والهند بالهلال الخصيب (العراق وسوريا ) . وكانت شبه جزيرة العرب تستورد الدقيق والزيت والأقمشة من الشام , كما تستورد التمور والأُدم من العراق . وقد ساعدت أسواق العرب في الجاهلية على نشاط التبادل التجاري , واشتهرت منها أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز ودومة الجندل ونطاة – بخيبر – وبدر وحباشة .

واستعمل العرب الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي في التبادل التجاري , كما استعملوا المكاييل والموازين ومقاييس الطول في عمليات البيع والشراء .

أما الصناعة في شبه الجزيرة العربية , فقد اشتهرت اليمن بصناعة البرود اليمانية.

وعرفت المدينة بصياغة الحلي الذهبية والفضية ؛ وصناعة السيوف والرماح والقسي والنبال والدروع والحراب , كما قامت في المدن العربية حرف التجارة والحدادة والصياغة والدباغة , والغزل والنسيج , والخياطة , والصباغة . ولكن معظم الحرفيين كانوا من الموالي والعبيد ولم يكونوا عرباً . وقد شاع التعامل بالربا في مكة والطائف ويثرب ونجران , ومارسه اليهود وانتقل منهم إلى العرب , وكان على نوعين :
ربا النسيئة ؛ وهو زيادة المبلغ على المدين مقابل تأجيل الدفع .

وربا الفضل وهو الزيادة التي تترتب على بيع العينات المتماثلة بسبب اختلاف جودتها .

وكان الربا يؤخذ أضعافا مضاعفة , وقد حرمه الإسلام بنوعيه , قال تعالى: { وأحل الله البيع وحرّم الربا } (البقرة 275).

وكان العرب يعرفون أنواعاً من المعاملات المالية كالقراض والمضاربة والرهن , وكان الغرر يحيط بكثير من عقود البيع والشراء كالمنابذة والملامسة والنجش وبيع الحاضر للبادي . وكذلك كان الاحتكار يدخل في معاملاتهم التجارية , كما تفرض عليها المكوس الباطلة . وقد حرّم الإسلام البيوع التي فيها غرر أو ضرر كما حرم الربا والاحتكار تحقيقاً للعدل بين الناس . فعاش الناس في خير ورفاهية لما تمسكوا بهدي الإسلام في سياستهم واقتصادهم، وأصابهم الضنك والضيق لما تنكبوا الصراط المستقيم. والله الموفق .

موقع مقالات اسلام ويب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

صور مشرقة من احتساب الفاروق عمر رضي الله عنه – في الاسلام

صور مشرقة من احتساب الفاروق عمر رضي الله عنه

صور مشرقة من احتساب الفاروق عمر رضي الله عنه
عبد الله علي العبدلي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
لقد كان الفاروق عمر – رضي الله عنه – حازماً مهيباً،
مقتفياً آثار النبي – صلى الله عليه وسلم -،
جريئاً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم،
يهاب الشيطان منه فما بلك بمن دونه، فكانت حياته – رضي الله عنه – صفحة مشرقة من التاريخ الإسلامي،
ففيها الشرف والمجد والإخلاص والدعوة والاحتساب والجرأة في الحق،
وفي هذه الصفحات سأعرض شيئاً من الجوانب المشرقة التي حاز عليها
– رضي الله عنه -،
فمن ذلك احتسابه – رضي الله عنه -.
حسبته في مجال العقيدة:
لقد كان عمر – رضي الله عنه – حريصاً على إزالة كل شائبة قد تكدر صفاء عقيدة التوحيد،
مزيلاً كل الشبهات التي من شأنها أن تؤثر على العقيدة سلباً، ومما يدل على ذلك أنه لما قبل الحجر الأسود
قال
: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقبلك ما قبلتك)([1]).
وقد قال عمر – رضي الله عنه – هذا القول :
"لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام
فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار
كما كانت العرب تفعل في الجاهلية،
فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا
لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان"([2]).
ومن صور احتسابه – رضي الله عنه -:
أنه أمر بقطع الشجرة التي بايع الصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تحتها فإنه علم أن بعض الناس يجتمعون هناك
فخشي أن تصبح هذه الشجرة فيم بعد مزاراً يقصده الناس لأجل التبرك([3]).

ولما رأى انتصارات خالد بن الوليد – رضي الله عنه – وتعلق الناس به،
خشي أن يعتقد الناس أن النصر معلق ببراعة خالد،
فقال – رضي الله عنه -:
"إني لم اعزل خالداً عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع"([4]).

حسبته في مجال العبادة:
من احتسابه في مجال العبادات، أنه كان لا يكبر للصلاة حتى يستقبل الصف المقدم بوجهه،
فإن رأى رجلاً متقدماً من الصف أو متأخراً ضربه بالدرة([5]).
وكان ينهى – رضي الله عنه – اللغط في المسجد ورفع الأصوات فيه،
تعظيماً لشعائر الله،
فعن السائب بن يزيد قال:
"كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب،
فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما،
قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف،
قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -!"([6]).

وقد فرق عمر – رضي الله عنه – بين أهل المدينة وغيرها في هذا؛
لأن أهل المدينة لا يخفى عليهم حرمة مسجد رسول الله وتعظيمه،
بخلاف من لم يكن من أهلها،
فإنه قد يخفى عليه مثل هذا القدر من احترام المسجد، فعفى عنه بجهله([7]).

وكان – رضي الله عنه – يحتسب على من يتسامح في فتواه قبل أن يتحقق،
فعن سالم بن عبد الله بن عمر أنه سمع أبا هريرة يحدث عبد الله بن عمر:
أنه مر به قوم محرمون بالربذة فاستفتوه في لحم صيد وجده أناس
أحلة أيأكلونه؟
فأفتاهم بأكله،
قال: ثم قدمت على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فسألته عن ذلك،
فقال: بما أفتيتهم؟
قال: قلت أفتيتهم بأكله قال عمر رضي الله – تعالى -عنه لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك([8]).

احتسابه في مجال المعاملات:
كان الفاروق – رضي الله عنه – يشترط أن لا يزاول التجارة إلا من كان يفقه أحكام البيع،
قال – رضي الله عنه –:
"لا يبيعن بسوقكم إنسان إلا إنسان يعقل البيع"([9]).
وفي ورواية عند الترمذي:
"لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين"([10]).
وهذا الشرط من الفاروق – رضي الله عنه – من أجل أن يعرف الإنسان ما يأخذ وما يدع،
ويعرف الحلال والحرام، ولا يفسد على الناس بيعهم وشراءهم بالأباطيل والأكاذيب، وحتى لا يدخل الربا عليهم من أبواب قد لا يعرفها المشتري،
ولتكون التجارة تجارة إسلامية صحيحة خالصة، يطمئن إليها الجميع.

ولم يكتف – رضي الله عنه – بإصدار القرارات والتوجيهات فحسب،
ولكنه كان يتفقد الأسواق،
ويطَّلع على معاملات الناس الجارية فيعلم الجاهل ويذكر الغافل، ويؤدب المحتكرين وينفيهم من أسواق المدينة([11]).
احتسابه على الولاة:
كان الفاروق – رضي الله عنه – يحث عماله وغيرهم من عامة الناس على المعروف وينفرهم من المنكر،
و يحرص على العدل بين الرعية فكان الوالي في نظره فرداً من الأفراد،
يجرى حكم العدل عليه كما يجرى على غيره من سائر الناس،
وكان – رضي الله عنه – يعقد اجتماعاً سنوياً مع عماله بالموسم،
ومرة جمعهم فقال:
"أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم وليقسموا فيئكم بينكم،
فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام،
فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك فلاناً ضربني مائة سوط،
قال: فيم ضربته؟
قم فاقتص منه، فقام عمرو بن العاص
فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك،
فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه،
قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار، كل سوط بدينارين([12]).
وكان – رضي الله عنه – إذا استعمل العمال خرج معهم يشيعهم فيقول:
"إني لم أستعملكم على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم –
على أشعارهم ولا على أبشارهم،
إنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق وتقسموا بينهم بالعدل،…. " ([13]).
حسبته في مجال الأخلاق والآداب العامة:
لقد اشتد عمر – رضي الله عنه – على أهل الريب والتهم وهو أول من عس في عمله بالمدينة وحمل الدرة وأدب بها،
ولقد قيل بعده لدرة عمر أهيب من سيفكم ([14]).
وكان عمر – رضي الله عنه – يعس ذات ليلة بغية الاطمئنان على أحوال رعيته، فسمع امرأة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها، أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج؟
فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو من بني سليم فأرسل إليه فأتاه فإذا هو من أحسن الناس شعراً وأصبحهم وجهاً،
فأمره عمر أن يحلق شعره ففعل، فخرجت جبهته فازداد حسناً، فأمره عمر أن يعتم ففعل، فازداد حسناً،
فقال عمر: لا والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أنا بها!
فأمر له بما يصلحه وسيره إلى البصرة([15]).

ومن احتسابه أنه عاقب الحطيئة وسجنه، ثم أطلقه، واشترى أعراض المسلمين منه بثلاثة آلاف درهم حتى قال الحطيئة:
وأخذت أطراف الكلام فلم تدع *** شتماً يضر ولا مديحاً ينفع
ومنعتني عرض البخيل فلم يخف *** شتمي فأصبح آمناً لا يفزع ([16])

قال الإمام السيوطي:
إن الفاروق أول من عاقب على الهجاء([17]).
وكان الفاروق – رضي الله عنه – يزجر المغالي،
فمرة قال له رجل:
"ما رأيت مثلك، قال: رأيت أبا بكر،
قال: لا، قال: لو قلت نعم إني رأيته لأوجعتك ضرباً"([18]).

ولقد كان اهتمام الفاروق- رضي الله عنه – بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظل معه حتى وهو يواجه الموت بكل آلامه وشدائده،
ذلك أن شاباً دخل عليه لما طعن، ليواسيه،
وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله
– صلى الله عليه وسلم -،
وقِدَم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة،
قال- أي عمر-: وددت أن ذلك كفاف، لا عليّ ولا لى،
فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض،
قال: ردوا علَيّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك([19]).
ولذا قال ابن مسعود – رضي الله عنه – فيما رواه عمر بن شبة: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق([20]).

ومن عنايته الفائقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة الموت أنه لما دخلت عليه حفصة – رضي الله عنها –
فقالت: يا صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -،
ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين،
فقال عمر لابن عمر – رضي الله عنهما –:
يا عبد الله، أجلسنى فلا صبر لى على ما أسمع.
فأسنده إلى صدره، فقال لها: إني أُحَرِّج عليك بما لي عليك من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها([21]).

وعن أنس – رضي الله عنه –:
أن عمر بن الخطاب لما طعن عولت عليه حفصة فقال يا حفصة أما سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم –
يقول المعول عليه يعذب؟
وعول عليه صهيب فقال عمر يا صهيب أما علمت أن المعول عليه يعذب؟ ([22]).

هذه جوانب مضيئة من احتساب أبي حفص عمر – رضي الله عنه – ذكرتها للمثال لا للحصر،
أما فتوحاته ونشره للإسلام شرقا وغربا وتحطيمه للإمبراطوريتين الفارسية والرومية واحتسابه العظيم في ذلك فهو أشهر من أن يذكر،

رحم الله أبا حفص عمر ***وسقى بقعته صوب المطر.
___________
[1] – رواه البخاري، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، (2/579)، برقم (1520)، ومسلم كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف(2/925)، برقم (1270)
[2] – فتح الباري (3/463).
[3] – مصنف ابن أبي شيبة (2/150)، برقم (7545).
[4] – البداية والنهاية (7/81)، الكامل في التاريخ (1/441).
[5] – الطبقات الكبرى لابن سعد (3 /340).
[6] – رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد (1/179)، برقم (458).
[7] – فتح الباري لابن رجب (2/565).
[8] – رواه البيهقي في السنن الكبرى (5/189)، برقم (9695)، ومالك (1/352)، برقم (783)، وعبد الرزاق في مصنفه (4/432)، برقم(8342)
[9] – مصنف ابن أبي شيبة (5/15)، برقم (23270).
[10] – رواه الترمذي (2/357)، وقال الألباني: إسناده حسن.
[11] – ذكر ذلك ابن حجر وعزاه إلى بعض المؤرخين. انظر: فتح الباري(12/160).
[12] – الطبقات الكبرى لابن سعد (3 /293- 294).
[13] – تاريخ الأمم والرسل والملوك للطبري (2/567).
[14] – الطبقات الكبرى لابن سعد (3/282).
[15]- الطبقات الكبرى لابن سعد (3/285).
[16] – محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ليوسف بن حسن بن عبد الهادي المبرد (1/376).
[17] – تاريخ الخلفاء (1/123).
[18] – مصنف ابن أبي شيبة (6/349)، برقم (31933).
[19] – رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عثمان – رضي الله عنه – (3 / 1353)، برقم (3497)
[20] – انظر فتح الباري (7 / 65).
[21] – الطبقات الكبرى لابن سعد (3 / 361).
[22] – رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه
(2 / 638)، برقم (927)

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

السيده خديجه

هي أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد بن أسدٍ بن عبد العزَّى بن قصي القرشية الأسدية، وأمها فاطمة بنت زائدة بنت جندب. ولدت بمكة سنة 68 ق.هـ، وكانت من أعرق بيوت قريشٍ نسبًا وحسبًا وشرفًا، وقد نشأت على التخلُّق بالأخلاق الحميدة، وكان من صفاتها الحزم والعقل والعفة. يلتقي نسبها بنسب النبي في الجد الخامس، فهي أقرب أمهات المؤمنين إلى النبي ، وهي أول امرأة تزوَّجها، وأول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين.

السيدة خديجة في الجاهلية
في الجاهلية وقبل لقاء رسول الله كانت السيدة خديجة -رضي الله عنها- امرأة ذات مال وتجارة رابحة، فكانت تستأجر الرجال لتجارتها وتبعثهم بها إلى الشام، ومرت الأيام ووصل إلى مسامعها ذكر "محمد بن عبد الله" كريم الأخلاق، الصادق الأمين، وكان قلَّ أن تسمع في الجاهلية بمثل هذه الصفات، فأرسلت إليه وعرضت عليه الخروج في مالها تاجرًا إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار.

وحينها قَبِل ذلك منها ، وخرج في مالها ومعه غلامها "ميسرة" حتى قدم الشام، وهناك نزل رسول الله في ظل شجرة قريبًا من صومعة راهب، فاطّلع الراهب إلى ميسرة وقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال ميسرة: هذا الرجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قَطُّ إلا نبي. ثم باع رسول الله سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد، ولما قدم مكة على السيدة خديجة بمالها باعت ما جاء به، فربح المال ضعف ما كان يربح أو أكثر.

وأخبرها ميسرة عن كرم أخلاقه وصفاته المتميزة التي وجدها فيه أثناء الرحلة، فرغبت في الزواج منه، فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، والسيدة خديجة يومئذ بنت أربعين سنة.

وكان قد قُدِّر لخديجة -رضي الله عنها- أن تتزوج مرتين قبل أن تتشرَّف بزواجها من رسول الله ، وقد مات عنها زوجاها، وتزوجها رسول الله قبل الوحي، وعاشت معه خمسًا وعشرين سنة؛ فقد بدأ معها في الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هي في الأربعين، وظلا معًا إلى أن توفاها الله وهي في الخامسة والستين، وكان عمره في الخمسين، وهي أطول فترة أمضاها النبي مع هذه الزوجة الطاهرة من بين زوجاته جميعًا، وهي -وإن كانت في سن أمِّه – أقرب زوجاته إليه؛ فلم يتزوج عليها غيرها طوال حياتها، وكانت أم ولده الذكور والإناث إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية رضي الله عنها، فكان له منها : القاسم وبه كان يُكنَّى، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.

إسلام السيدة خديجة
كانت السيدة خديجة -رضي الله عنها- قد ألقى الله في قلبها صفاء الروح، ونور الإيمان، والاستعداد لتقبُّل الحق، فحين نزل على رسول الله في غار حراء {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، رجع ترجف بوادره وضلوعه، حتى دخل على السيدة خديجة فقال: "زملوني زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الروع.

وهنا قال لخديجة رضي الله عنها: "أَيْ خديجة، ما لي لقد خشيت على نفسي". وأخبرها الخبر، فردت عليه السيدة خديجة -رضي الله عنها- بما يطيِّب من خاطره، ويهدئ من روعه فقالت: "كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".

ثم انطلقت به رضي الله عنها حتى أتت به ورقة بن نوفل -وهو ابن عم السيدة خديجة رضي الله عنها، وكان امرأً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي- فأخبره النبي خبر ما رأى، فأعلمه ورقة أن هذا هو الناموس الذي أُنزل على موسى .

ومن ثَمَّ كانت السيدة خديجة -رضي الله عنها- أول من آمن بالله ورسوله وصدَّق بما جاء به، فخفف الله بذلك عن رسول الله ؛ لا يسمع شيئًا يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيب له فيحزنه إلا فرَّج الله عنه بها، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهوِّن عليه أمر الناس.

السيدة خديجة.. العفيفة الطاهرة
كان أول ما يبرز من ملامح السيدة خديجة الشخصيَّة صفتي العفة والطهارة، هاتان الصفتان التي قلما تسمع عن مثلهما في بيئة لا تعرف حرامًا ولا حلالاً، في بيئة تفشت فيها الفاحشة حتى كان البغايا يضعن شارات حمراء تنبئ بمكانهن.

وفي ذات هذه البيئة، ومن بين نسائها انتزعت هذه المرأة العظيمة هذا اللقب الشريف، ولقبت بـ"الطاهرة"، كما لُقب أيضًا في ذات البيئة بـ"الصادق الأمين"، ولو كان لهذه الألقاب انتشار في هذا المجتمع آنذاك، لما كان لذكرها ونسبتها لأشخاص بعينهم أهمية تذكر.

السيدة خديجة.. الحكيمة العاقلة
وتلك هي السمة الثانية التي تميز بها شخص السيدة خديجة رضي الله عنها، فكل المصادر التي تكلمت عن السيدة خديجة -رضي الله عنها- وصفتها بـ"الحزم والعقل"، كيف لا وقد تجلت مظاهر حكمتها وعقلانيتها منذ أن استعانت به في أمور تجارتها، وكانت قد عرفت عنه الصدق والأمانة.

ثم كان ما جاء في أبلغ صور الحكمة، وذلك حينما فكرت في الزواج منه ، بل وحينما عرضت الزواج عليه في صورة تحفظ ماء الوجه؛ إذ أرسلت السيدة نفيسة بنت منية دسيسًا عليه بعد أن رجع من الشام؛ ليظهر وكأنه هو الذي أرادها وطلب منها أن يتزوجها.

ونرى منها بعد زواجها كمال الحكمة وكمال رجاحة العقل، فها هي تستقبل أمر الوحي الأول بعقلانية قلَّ أن نجدها في مثل هذه الأحوال بالذات؛ فقد رفضت أن تفسِّر الأمر بخزعبلات أو أوهام، بل استنتجت بعقليتها الفذة وحكمتها التي ناطحت السحاب يوم ذاك أن الله لن يخزيه، ثم أخذته إلى ورقة بن نوفل ليدركا الأمر. وهذه طريقة عقلانية منطقية بدأت بالمقدمات وانتهت بالنتائج المترتبة على هذه المقدمات، فيا لها من عاقلة! ويا لها من حكيمة!

السيدة خديجة.. نصير رسول الله
وهذه السمة من أهم السمات التي تُميِّز شخص السيدة خديجة رضي الله عنها، تلك المرأة التي وهبت نفسها ومالها وكلّ ما ملكت لله ولرسوله ، ويكفي في ذلك أنها آمنت بالرسول وآزرته ونصرته في أحلك اللحظات التي قلما تجد فيها نصيرًا أو مؤازرًا أو معينًا.

ثم هي -رضي الله عنها- تنتقل مع رسول الله من حياة الراحة والاستقرار إلى حياة الدعوة والكفاح والجهاد والحصار، فلم يزدها ذلك إلا حبًّا لمحمد وحبًّا لدين محمد ، وتحديًا وإصرارًا على الوقوف بجانبه، والتفاني في تحقيق أهدافه.

فلما خرج رسول الله مع بني هاشم وبني عبد المطلب إلى شعاب مكة في عام المقاطعة، لم تتردد -رضي الله عنها- في الخروج مع رسول الله لتشاركه -على كبر سنها- أعباء ما يحمل من أمر الرسالة الإلهية التي يحملها، فقد نَأَتْ بأثقال الشيخوخة بهمة عالية، وكأنها عادت إليها صباها، وأقامت في الشعاب ثلاث سنين وهي صابرة محتسبة للأجر عند الله تعالى.

وكأن الله اختصها بشخصها لتكون سندًا وعونًا للرسول في إبلاغ رسالة رب العالمين الخاتَمة، فكما اجتبى الله رسوله محمد واصطفاه من بين الخلق كافة، كذلك قدَّر له في مشوار حياته الأول لتأدية الرسالة العالمية مَن تضارعه أو تشابهه لتكون شريكًا له في حمل هذه الدعوة في مهدها الأول، فآنسته وآزرته وواسته بنفسها ومالها في وقت كان الرسول في أشد الاحتياج لتلك المواساة والمؤازرة والنصرة.

فضائل السيدة خديجة
خير نساء الجنة

لا شك أن امرأة بمثل هذه الأوصاف لا بد أن يكون لها منزلة رفيعة، فها هو الرسول يعلن في أكثر من مناسبة بأنها خير نساء الجنة؛ فقد روي عن أنس بن مالك أن النبي قال: "حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون".

السيدة خديجة يقرئها ربها السلام

ليس هذا فحسب، بل يُقرِئُها المولى السلام من فوق سبع سموات، ويبشرها ببيت من قصب في الجنة؛ فعن أبي هريرة أنه قال: أتى جبريلٌ النبيَّ فقال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ".

حب النبي لخديجة.. والوفاء لها

فكان حقًّا أن يكون لهذه الطاهرة فضل ومكانة عند رسول الله ، تسمو على كل العلاقات، وتظل غُرَّة في جبين التاريخ عامَّة وتاريخ العلاقات الأسرية خاصَّة؛ إذ لم يتنكَّر لهذه المرأة التي عاشت معه حلو الحياة ومرها، بل ويعلنها على الملأ وبعد وفاتها؛ وفاءً لها وردًّا لاعتبارها: "إني قد رزقت حبها".

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه لم يكد ينساها طيلة حياته وبعد وفاتها، إذ كان يكثر ذكرها ويتصدق عليها؛ تروي السيدة عائشة -رضي الله عنها- فتقول: ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها، ولكن كان النبي يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة رضي الله عنها، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة. فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد".

وفاة السيدة خديجة
تاقت روح السيدة خديجة -رضي الله عنها- إلى بارئها، وكان ذلك قبل هجرته إلى المدينة المنورة بثلاث سنوات، ولها من العمر خمس وستون سنة، وأنزلها رسول الله بنفسه في حفرتها، وأدخلها القبر بيده.

وتشاء الأقدار أن يتزامن وقت وفاتها والعام الذي تُوفِّي فيه أبو طالب عم رسول الله ، الذي كان أيضًا يدفع عنه ويحميه بجانب السيدة خديجة رضي الله عنها؛ ومن ثَمَّ فقد حزن الرسول ذلك العام حزنًا شديدًا حتى سُمي "عام الحزن"، وحتى خُشي عليه ، ومكث فترة بعدها بلا زواج.

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

محمد صل الله عليه وسلم الحقيقة العظمى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الکاتب : عزيز السيد جاسم

– مكة: المدينة المتكبرة:
في وادٍ ضيق طويل غير ذي زرع، قامت مكة، تلك المدينة المعاندة، التي لم تستطع الجبال التي تحيط بها أن تعصرها، لأنّها كانت لا تقل عنها قساوةً وصلابةً وارتفاعاً.
لا يعلم أحد، متى تأسست تلك المدينة الشامخة، كما لا يدري أحد لماذا امتلكت كل الشموخ الذي اتسمت به، رغم أنها لا تحوي القلاع الضخمة، ولا الآثار العظيمة، ولا الدهاليز السرية.
كذلك لا يدري أحد كيف طرقت أبواب ذاكرة التاريخ منذ آلاف السنين، دون أن تمتلك علامات فارقة، في النظام السياسي، والقضاء، والعمران.
لقد كانت – في الواقع – موقعاً أجرد، مجهولاً، لكنها كانت – في الحقيقة – مكاناً معلوماً، كأنها مع القدر في عناق، وعلى اتفاق. كانت مكة محرومة من الزراعة لأنّ مواسم المطر فيها متقطعة، مبلبلة، يطاردها الهجير الأبدي، والحرارة اللعينة التي تشوي بيوت الطوب، وتعتصرها اعتصاراً.
بيوت مشيدة على الرمضاء. استهلكها التبخر، فلم تعرف نعمة الماء الوفير، تلك كانت مكة… محصورة من عمق الأرض، من قبل الجفاف الذي كان سيد المنطقة، لحرمانها من الأنهار.
ولولا ماء بعض العيون، لكانت مدينة للجماجم والعظام والأحجار المبعثرة. في واقعها، كانت مكة لا معنى لها ولا وجود في حساب الدول والمدن المتحضرة، فأي معنى يمكن أن تكتسبه مجموعة بيوت لا تقل وحشة، عن القفار التي تحيط بها، بجبالها، وكثبانها، وفضائلها المدلهم، الذي تملأه سحب الحر اللافح، والسرابات التي تميت انشودة الحياة، كأنها غيوم الأفيون المخدرة والمعتمة؟!
لكن مكة، كانت تحمل – في ذاتها – معناها القدري الخاص… لقد فرضت نفسها على جغرافية المكان، وعلى حضارات الدول والمدن الأخرى، بدون شرط، وبدون مزايا ظاهرة.
لقد قدمت تلك المدينة من بطن التاريخ القديم كصورة ناقصة، مبهمة، كان مقدراً لها أن تكتمل يوماً ما، فتصبح صورة صارخة تدور نحوها أعناق ورؤوس ملايين البشر في جميع أرجاء المعمورة.
أوشكت الجبال أن تخنق مكة لولا بعض المنافذ التي جعلت المدينة على اتصال بالطرق المتجهة من الشمال إلى الجنوب، من الشام إلى اليمن، فكانت للمدينة مكانة تجارية قاسية. لأنّ التجارة إذا لم ترتكز على أرضية اقتصادية فتية، تغذيها الزراعة، والري، وتدعمها السلطة المركزية والقانون، ليست غير فعالية إقتصادية ثانوية، قياساً إلى تجارات المنشأ. فهي مجرد محطة في تقاطع واتصال الطرق التجارية الطويلة التي كانت تنتقل عليها صادرات البلدان والمدن المتواصلة فيما بينها في مبادلات تجارية مدعومة بالزرعة والصناعة.
حقاً، كانت ولادة النبي العظيم محمد قد نقلتها من دائرة النسيان والمجهولية، إلى دائرة الشهرة، إنما قبل ذلك كانت مكة مكان الاغراءات الغامضة. فما هو الداعي – مثلاً، إلى أن يذهب (إبراهيم)، المولود في العراق، من أب نجار (كان يصنع الأصنام من الخشب ويبيعها)، إلى وادي مكة، الأجرد، المقفر، حبيس الجبال، والنائي عن الحواضر، ومواطن الكلأ والماء؛ آخذاً معه إبنه (إسماعيل) وأمه (هاجر)؟! ثم، لماذا يترك إبراهيم ولده إسماعيل وأمّه هاجر في ذلك الوادي الكئيب، الذي لم يوفر لهما مصدر قوت متواضع، بل بخل عليهما حتى بالماء؟
فحينما أصاب العطش إسماعيل، بعد أن نفد الغذاء والماء الذي تركه لهما إبراهيم، أخذت هاجر تبحث عن ماء، مهرولة في الوادي بين الصفا والمروة، حتى تملّكها الأسى واليأس، فكرت عائدة إلى اسماعيل، فكانت قد وجدت – بقدرة الرب – نبع ماء يتدفق من تحت قدم ابنها اسماعيل الذي كان يجسُّ الأرض، جس الضجير، أو اللاهي، الذي يحرق العطش احشاءه؟!
وتحل بركتان في الوادي المعتم. بركة اسماعيل الذي تزوج امرأة جرهمية، فولد له منها إثنا عشر ولداً، هم الذرية التي قيض لها أن تنتشر على البطائح العربية. أما البركة الثانية فهي عطاء ماء زمزم الذي أضفى على الوادي المعتم نعمة لا تُقدر.
لكن ماء البئر ليس كمياه البحار والأنهار، التي توفر للمواقع المنشأة على ضفافها حضارات، وثقافات عقلية، فشتان ما بين ماء بئر وماء بحر أو ماء نهر.
وبئر زمزم مطوق من كل الأركان بكتل الحجارة، بالجلاميد، بالجبال والهضاب، والزمن الثقيل. فكان طبيعياً أن تكون المكانة الأولى للأوثان في عالم الحجر، أما في عالم المياه، فإنّ الوثن يهرب بعيداً، لأنّ في الماء سر الحياة: (.. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ…) (الأنبياء/ 30).
ربّما لو قامت مكة على ضفاف البحر الأحمر لكانت غير مكة الوثنية المتكبرة. ومن المؤكد – لو حصل ذلك – أنّ بئر زمزم ما كان ليكتسب كل تلك القداسة الفريدة.
لكن في المدينة الصحراوية، الساخنة تماماً، والتي يغطيها الحر كطبقات من غضب كوني عميم، كان ماء زمزم يشهد تاريخ المدينة التي صنعت الوثن.
فأصبحت القداسة الوثنية امتيازاً فريداً لمكة المحاطة بالحضارتين الفارسية والرومية، وبالديانات اليهودية والنصرانية، دون أن تفتح ولو نافذة صغيرة إلى أحد.
لقد ظلت تلك المدينة اختراعاً وثنياً، وبناءً وثنياً، لا تأبه للديانات التي انتشرت حولها، فتطابقت مع أصنامها كصنم أكبر، ولم تتحرك قيد شعرة عن هبلها، ترى أي لغز كانت تصوغه تلك المدينة العجيبة؟ أو هل كانت تدخر نفسها لدور قادم؟
وتصنع الوثنية رموزها، أصناماً وأوثاناً ونصباً، حتى تتجاوز الثلاثمائية وستين. ويبلغ التحدي الذروة، لا عندما أغلقت أبوابها ونوافذها بوجه اليهودية والنصرانية فقط، بل عندما مرت تجربة بناء الكعبة مروراً غير مؤثر على الصمود الوثني لمكة المتجبرة.
لقد أراد إبراهيم وابنه إسماعيل، الهدى للناس فشيدا الكعبة (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران/ 96-97). وأراد إبراهيم وابنه اسماعيل أن تكون الكعبة تطهيراً من الرجس الوثني وحثاً على الإيمان بالوجدانية: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة/ 125-127).
كانت فكرة إبراهيم وإسماعيل أن تكون الكعبة بيت الله، لكن الإرادة الوثنية المكية كانت طاغية طغياناً قدرياً عجيباً. فما أن غادر إبراهيم، ومات إسماعيل، حتى امتلأت الكعبة بالأصنام والأوثان والنصب. وأصبح لكل قبيلة أو عدة قبائل متحالفة أصنامها وأوثانها.
كانت مكة تبالغ في تطرفها الوثني، فما استجابت إلى نداء التوحيد الإبراهيمي. ولا إلى صيحات إسماعيل وأهل مكة من ذريته، وصلبه.
هكذا صنعت المدينة (مكة) نفسها: بنيةً وثنيةً، وعقلاً وثنياً، ونشاطاً وثنياً مكرساً أتم التكريس حول المكعب الأسود: (الكعبة) الذي بلغ من تقديس أهل مكة له أنهم لم يشيدوا دورهم حولها، في (الحرم)، واختاروا التشييد في (الحل).
بتلك المهابة كانت الكعبة وهي في حوزة الوثن عنوةً. وتتكامل عناقيد الوثنية في النظرية والتطبيق، في الفكرة والسلوك، فيُصبح وادي مكة الذي كان مربطاً للخيول والإبل، مركزاً وسيطاً للتجارة، ويدل ساحة اللعب الوثن الأكبر: المال، فيعزز من جبروته، هبل واللات والعزى، لأن سلطة المال تحتاج إلى سندها النظري والدعائي، فتم التوظيف المتبادل بين الوثنيين: وثن المال، والصنم، فتكاملت أطراف الأيديولوجية الوثنية.

– عام الفيل: المؤامرة في المهد:

كان (ذو نواس) ملك اليمن يهودياً، لا يطيق انتشاره شريعة موسى في بلاد اليمن. فحفر سنة 500 ميلادية أخدوداً، وملأه ناراً، وألقيت في الأخدود أجساد النصارى إلا من تراجع عن ديانته واعتنق اليهودية.
فكتب القيصر قسطنطين إلى ملك الحبشة، داعياً إياه إلى إنقاذ نصارى (نجران)، فأرسل ملك الحبشة جيشاً بقيادة (أرياط) فاستولى عن اليمن وأقام حكمه فيها.
وفيما بعد قام (أبرهة) بتحريض الجيش على (أرياط)، فقتله واستتب له الأمر وبنى كنيسة بصنعاء، واتجه – بعد ذلك – نحو هدف تهديم الكعبة.
كان أبرهة يدّعي بأن بعض العرب قد اعتدوا على الكنيسة، وأنّه منتقم منهم، بالتوجه نحو الكعبة لتهديمها. كذلك كان يطمح إلى نشر النصرانية.
حينذاك كانت الأحاديث متداولة عن أن جزيرة العرب ستشهد انقلاباً عظيماً، وأن نبياً جديداً سوف يظهر على أرض العرب، وكانت الأحاديث تشير إلى مكة، وبخاصة من قبل أهل الكتاب، فكانت حملة (أبرهة) تحمل فيما تحمل من نوايا ما هو أخطر من هدم الكعبة، وذلك بالإستيلاء على مكة والتعرف على من فيها من الأسر، بغية التعرف على "محمد" وقت ولادته، وقتله.
لقد أراد أبرهة وجيشه قتل محمد في مهده، كما أراد هيرودس قتل عيسى في مهده، وكان الأحبار يتداولون الأحاديث عن السنة التي سيولد فيها محمد من سفر دانيال. وكذلك كانت تنبؤات "الموبذان" خادم النار الكبير عند الفرس المجوس.
كانت جحافل (أبرهة) متوجهة بالويل والثبور نحو مكة، تريد إخماد النور في مهده، وكانت قوى الشرك والطغيان ورأس المال التجاري والربوي تمسك بتلابيب الحياة، ومكة – نفسها – كانت مركزاً لأكثر شياطين الحياة تدميراً: شياطين المال، وأقطاب الوثنية الصارمة.. كانت حبكة الكفر والضلال واسعة وقوية. حينذاك، ربما غاضت مياه بحيرة ساوى، واهتز قصر كسرى أنوشروان، وتصدعت أربعة عشر من أبراجه، وخمدت نار الفرس بعد أن ظلت مضطرمة أكثر من ألف عام.. وربما اهتزت الأصنام ونكست رؤوسها، فقد أعطت الأفلاك شيفرة التوافق.. وتقاطعت الأسرار في ظواهر الإلتقاء..
ثمّة أمر جديد في عالم جزيرة العرب.. سطع نور باهر من كوكب المشتري، وأحست آمنة بنت وهب بالنور السماوي يشع من داخلها.. لقد اختضت الأرض، وهي تستقبل الوليد القادم محمداً.. فيا أيها اليتامى حيوا خاتم الأنبياء، قائد المستضعفين… فهو يتيم مثلكم، اصطفاه الله من بينكم نبياً لكم، وللناس أجمعين.


لقد حلت البركة، بداية الرحمة الإلهية، بولادة النبي قبل إشراق نجمة الصباح بلحظات في الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل عام 570 أي عام الفيل وعلى كثرة ما قيل عن الخوارق والأعاجيب التي رافقت ولادته، فإنّ أصدق ما قيل هو أنّ حادثاً مر بهدوء وبساطة، "ذلك الحادث هو ميلاد طفل قرشي في مكة، تلك المدينة التهائهة في وسط القفار، تلك المدينة المجهولة، أو المحتقرة لدى أكابر الملوك والأمراء، في الشرق والغرب".
وستمتلئ مكة من سنا نور وجهه، وكذلك الجزيرة العربية، أما أبراج قصر كسرى أنوشروان، فإنّها لن تتصدع فقط، بل سيكون آخر عهد الناس بها، فالنار المجوسية تتلاشى أمام نداء الرحمة التي خاطب الله رسوله بها: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).

المصدر: كتاب محمد الحقيقة العظمى

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

الشاة المسمومة – في الاسلام

اليهود هم اليهود ، نقضة العهود ، وقتلة الأنبياء ، وفي كل زمان ومكان حالهم مع المسلمين حقد وحسد ، وغدر وإيذاء ، وهم ليسوا أصحاب حرب ، بل أهل دس ومؤامرة .. ومن ذلك أنهم لما رأوا نصر الله للمؤمنين في خيبر ، تآمروا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأهدوا إليه شاة مسمومة لمحاولة قتله ..

عن أبي هريرة – رضي الله عنه ـ قال : ( لما فُتِحت خيبر، أُهْدِيَت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – شاة فيها سم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادِقيَّ عنه؟، فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : من أبوكم؟، قالوا: أبونا فلان، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : كذبتم بل أبوكم فلان، فقالوا : صدقت وبررت .
فقال : هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟، فقالوا : نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، قال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : من أهل النار؟، فقالوا : نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها، فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدا .
ثم قال لهم : فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟، قالوا : نعم، فقال : هل جعلتم في هذه الشاة سما؟، فقالوا: نعم، فقال : ما حملكم على ذلك؟، فقالوا : أردنا إن كنت كاذبا نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك )( البخاري ).

وفي السيرة النبوية لابن هشام قال : " .. فلما اطمأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أهدت له زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم ، شاة مصلية وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ فقيل لها : الذراع فأكثرت فيها من السم، ثم سمَّت سائر الشاة ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ، ومعه بِشر بن البراء بن معرور ، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – . فأما بشر فأساغها ، وأما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلفظها ، ثم قال : إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ثم دعا بها فاعترفت، فقال : ما حملكِ على ذلك ؟، قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلتُ : إن كان مَلِكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيُخْبر .. قال : فتجاوز عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومات بشر من أكلته التي أكل " ..

قال ابن القيم في زاد المعاد : " وجيء بالمرأة إلى رسول الله، فقالت : أردت قتلك، فقال : ما كان الله ليسلطك عليَّ، قالوا : ألا تقتلها؟، قال : لا، ولم يتعرض لها، ولم يعاقبها، واحتجم على الكاهل، وأمر من أكل منها فاحتجم، فمات بعضهم " ..
واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تجاوز عنها أولا، فلما مات بِشر قتلها به قصاصا ..

وقد عفا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذه المرأة اليهودية التي حاولت قتله بالسم، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا ينتقم لنفسه ، كما قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ في وصفه : ( مَا خُيِّرَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه في شيء قط ، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى )( البخاري ) .

لقد لقي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أعدائه كثير الأذى، وعظيم الشدة والمكائد، منذ جهر بدعوته، ولكن الله تبارك وتعالى حفظه وعصمه من الناس، وقصة الشاة المسمومة صورة من صور حفظ الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، تنفيذا لوعده سبحانه : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }(المائدة: من الآية67) ..
قال النووي في شرحه للحديث : " فيه بيان عصمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الناس كلهم، كما قال الله : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }(المائدة: من الآية67)، وهي معجزة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سلامته مِن السم المهلك لغيره، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة، وكلام عضو منه له، فقد جاء في غير مسلم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( إن الذراع تخبرني أنها مسمومة ) " .
وقال الحافظ ابن حجر : " .. وفي الحديث إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الغيب، وتكليم الجماد له، ومعاندة اليهود لاعترافهم بصدقه فيما أخبر به عن اسم أبيهم، وبما وقع منهم من دسيسة السم، ومع ذلك فعاندوا واستمروا على تكذيبه .. " .

وظل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعاوده ألم السم حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .. فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول في مرض موته الذي مات فيه : يا عائشة ، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري (عرق متصل بالقلب) من ذلك السم )(البخاري) ..

لقد أظهرت قصة الشاة المسمومة حقيقة ثابتة، وهي أن اليهود هم اليهود ، على مر التاريخ والعصور، ومنذ عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يومنا هذا، دأبهم دائما الخيانة والغدر والتآمر، وهم مصدر خطر كبير وشر مستطير على الإسلام والمسلمين، ينبغي التنبه له ومواجهته .. فهل نتعلم من تاريخهم مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين ؟!، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }(قّ : 37) ..

موقع مقالات اسلام ويب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

إسلام عدي بن حاتم – سنة النبي

كان عدي بن حاتم نصرانيا ، وهو ابن حاتم الطائي المشهور بالكرم ، وكان شريفا في قومه ، فلما سمع برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كره دعوته ، وترك قومه ولحق بنصارى الشام ، فكره مكانه الجديد أكثر من كراهته لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال في نفسه : لو أتيته فإن كان ملِكا أو كاذبا لم يَخْف عليَّ .

ويحدثنا أبو عبيدة بن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عن قصة إسلام عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ فيقول : ( كنت أسأل عن حديث عدي بن حاتم وهو إلى جنبي لا آتيه فأسأله ، فأتيته فسألته فقال : بُعِث رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حيث بعث فكرهته أكثر ما كرهت شيئا قط ، فانطلقت حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الروم ، فقلت : لو أتيت هذا الرجل فإن كان كاذبا لم يخف عليَّ ، وإن كان صادقا اتبعته . فأقبلت فلما قدمت المدينة استشرف لي الناس وقالوا : جاء عدي بن حاتم ، جاء عدي بن حاتم ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لي : يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ، قال : قلت : إن لي دينا ، قال: أنا أعلم بدينك منك – مرتين أو ثلاثا – ألست ترأس قومك ؟ ، قال : قلت : بلى ، قال : ألست تأكل المِرْبَاع (ربع غنائم الحرب) ، قال : قلت : بلى ، قال : فإن ذلك لا يحل لك في دينك ، قال : فتضعضعت لذلك ، ثم قال : يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ، فإني قد أظن – أو قد أرى أو كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم – أنه ما يمنعك أن تسلم خصاصة (حاجة وفقر) تراها من حولي ، وتوشك الظعينة (المرأة على البعير في الهودج) أن ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت ، ولتفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز ، وليفيضن المال – أو ليفيض – حتى يهم الرجل من يقبل منه ماله صدقة .
قال عدي بن حاتم : فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت ، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن على كنوز كسرى بن هرمز ، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة ، إنه لقول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لي ) رواه ابن حبان .

وفي السيرة النبوية لابن هشام يقول عدي : " فخرجت حتى أقدم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ، فدخلت عليه ، وهو في مسجده ، فسلمت عليه ، فقال : من الرجل ؟ ، فقلت : عدي بن حاتم ، فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها ، قال : قلت في نفسي : والله ما هذا بملك ، قال: ثم مضى بي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم (جلد) محشوة ليفا فقذفها إليَّ ، فقال : اجلس على هذه ، قال : قلت : بل أنت فاجلس عليها ، فقال : بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم بالأرض ، قال : قلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك " .

لقد أظهرت قصة إسلام عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ خلقا من أخلاق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو التواضع ، والذي كان من أسباب إسلام عدي ـ رضي الله عنه ـ ، فحينما أقبل عدي على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحمل في تصوره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحد رجلين إما نبي أو ملِك ، فلما رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ توقفه امرأة كبيرة ضعيفة مدة طويلة ، تكلمه في حاجة لها ، قال عدي في نفسه : " والله ما هذا بملك " ، ثم رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجلس أمامه على الأرض ، وبيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا ينطق بشيء من مظاهر الملك والغنى ، حينئذ شعر عدي بخلق التواضع عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فانسلخ من ذهنه عامل الملك ، واستقر في تصوره عامل النبوة ، وهذا درس لكل من يدعو إلى الله أن يتصف ويتحلى بخلق التواضع .

فالتواضع ، وخفض الجناح ، ولين الجانب ، كانت أوصافا له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، تخلَّق بها مع الكبير والصغير ، والقريب والبعيد ، ولا يملك من يقرأ سيرته ، ويطلع على أخلاقه إلا أن يمتلئ قلبه بمحبته ، فالناس مفطورون على محبة المتواضعين وبغض المتكبرين ، وأخبار تواضعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة، وسيرته العطرة مليئة بها ، وما حفظ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه تكبر على أحد ، أو فاخر بنفسه أو مكانته.

كذلك أظهر إسلام عدي ـ رضي الله عنه ـ حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حيث بين له ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه على علم بدينه ـ الباطل ـ الذي كان يعتنقه ، وبمخالفته له ، ومن ثم حصل لعدي اليقين بنبوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي يعلم من دينه ما لا يعلمه الناس من حوله . ولما ظهر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن عدياً قد أيقن بنبوته تحدث عن العوائق التي تحول بين بعض الناس واتباع الحق ـ حتى مع معرفتهم بأنه حق ـ ، ومنها ضعف المسلمين وعدم اتساع دولتهم ، وما هم فيه من الفقر ، فطمأنه النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن الأمن سيشمل البلاد حتى تخرج المرأة من العراق إلى مكة من غير أن تحتاج إلى حماية أحد ، وأن دولة الفرس ستقع تحت سلطان المسلمين ، وأن المال سيفيض حتى لا يقبله أحد، فلما زالت عن عدي هذه المعوقات أسلم .

لقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم – حكيما في دعوته ، خبيراً بأدواء النفوس ودوائها ، فكان يدعو كل إنسان بما يلائم علمه وفكره ومشاعره ، ومن ثم وجد عدي سمات النبوة في الحكمة الباهرة في حديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما وجدها في تواضعه .

وكما وجد عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ سمات النبوة الصادقة في مظهر معيشته – صلى الله عليه وسلم ـ، وتواضعه وحديثه وحكمته ، وجد مصداق ذلك كله فيما بعد ، في وقائع الزمن والتاريخ ، فكان ذلك سببا في زيادة يقينه ، فقد تحقق أمام عينيه ما بشره به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمور غيبية حدثت بعد وفاته في المستقبل ، وهذه إحدى معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

قال عدي بن حاتم : " فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت ، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن على كنوز كسرى بن هرمز ، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة ، إنه لقول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لي " .

قال البيهقي : قد وقعت الثالثة في زمن عمر بن عبد العزيز ، ثم أخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال : إنما ولِيَ عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً ، والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول : اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء ، فما يبرح حتى يرجع بماله ، نتذكر من يضعه فيهم فلا نجد فيرجع بماله ." .

إن قصة إسلام عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ دليل من دلائل نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وتجسيد واضح لتواضع وحكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والتي ينبغي أن يقتدي بهما المسلم في حياته ودعوته .

موقع مقالات اسلام ويب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده