التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

هذه أحاديث مشهورة ضعيفة … ها هنا السنة النبوية

هناك أحاديث نبوية مشهورة تأثر بها المسلمين كثيرًا

وهي أحاديث ضعيفة غير صحيحة ولا يعتد بها وجمعت

بعض الأحاديث التي انتشر عنها فوائد خطأ لعدم صحة

الحديث المنقول وانتشارها كان خلال وسائل التواصل

الاجتماعي ومواقغ غير متدينة لا تعلم صحتها ولكنني

أولا سأوضح الفرق بين الحديث الضعيف والحديث

المكذوب فالحديث الضعيف هو ما كان من صفاته :

الانقطاع – نكارة متنه-ضعف رواته-واضطرابه

أما المكذوب الذي ينزل دون متن أو رواة أبدًا ولم

ينقله أيٌ من رواة الحديث المعروفين الصحيحة أحاديثهم

والآن سأضع لكم بعض الأحاديث الموضوعة ( المكذوبة )

أو الأحاديث الضعيفة والتي جمعتها من عدد من مواقع

إسلامية لعدد من مشايخ الحديث النبوي :

– ما رواه البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي

صلى الله وسلم قال:

( من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً)

وهو حديث ضعيف قال عنه المناوي في كتابه فيض القدير:

(وفيه أبو شجاع قال في الميزان: نكرة لا يعرف ثم أورد

هذا الخبر من حديثه عن ابن مسعود قال ابن الجوزي

في العلل: قال أحمد: هو حديث منكر.

2- حديث (من قرأ هذا الدعاء وأخبر الناس به فرّج الله همه )

وهو :يا الله، يا كريم، يا أول، يا آخر يا مجيب يافارج الهم

ويا كاشف الغم فرج همي ويسر أمري وارحم ضعفي

وقلة حيلتي وارزقني مِن حيث لا أحتسب يا رب العالمين

وهو حديث مكذوب فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن كذبا

علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمدا فليتبوأ

مقعده من النار. متفق عليهما.

3- حديثين لنفس المعنى وهما :
(من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً)

وفي لفظ: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فلا صلاة له)

قال الذهبي :(قال ابن الجنيد: كذب وزور)

قال الحافظ العراقي: حديث إسناده لين

قال الألباني : باطل لا يصح من قبل إسناده ولا من جهة متنه

4-ومن الحديث الضعيف هذا الحديث :
(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)

قال الألباني: لا يصح مرفوعاً أي: ليس صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

5- وحديث (توسلوا بجاهي ، فإن جاهي عند الله عظيم)

قال ابن تيمية والألباني : لا أصل له.

من كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية .

6- ومنه حديث (من حج البيت ولم يزرني . فقد جفاني)

موضوع. قاله الذهبي في كتابه "ترتيب الموضوعات"

والصغاني في كتابه "الموضوعات"والشوكاني في كتابه "الفوائد المجموعة"

7- وحديث (من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي)

قال ابن تيمية: ضعيف بكتابه "قاعدة جليلة"

وقال الألباني: موضوع في كتابه "الضعيفة" .

8- وأيضا الحديث الشهير جدّا :

(من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا يفوته صلاة كتبت

له براءة من النار ونجاة من العذاب، وبرئ من النفاق))

فهو حديث ضعيف كما ذكره في كتابه "الضعيفة" .

9- وهذا موضوع وحديث غير صحيح أبدا :

(خير الأسماء ما عبِّد وما حـمِّد) وهو موضوع

كما قال السلف في كتبهم "الأسرار المرفوعة"

و "اللؤلؤ المرصوع" و "النخبة"

10- (اطلبوا العلم ولو بالصين) وهو موضوع كما ورد في كتاب

"الموضوعات" لابن الجوزي وكتاب "ترتيب الموضوعات" للذهبي.

و أخيرا – حديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) وهو ضعيف

كما ذكر في كتابر "العلل المتناهية" لابن الجوزي وكتاب "الذخيرة" .

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

دروس وثمرات رحلة الحبيب إلى الطائف – في الاسلام

دروس وثمرات رحلة الحبيب إلى الطائف
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حمدى شفيق

فوجئنا – منذ فترة- بأحد الذين يتحدثون على شاشات القنوات الفضائية يزعم أن رحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف هي :" محاولة فشلت ضمن 25 محاولة أخرى فشلت كلها" !!! اتهمت أذني وقلت لنفسي لعلى لم أسمع جيدا ، أو لعل الرجل لا يقصد ، فإذا به يعيد الكلام بكل جرأة ، وكأنه يتحدث عن رحلة أو محاولة فاشلة لزعيم سياسي – أو شخصية معاصرة- لحشد أنصار أو تحقيق مكاسب دنيوية !!
ولمّا كانت هذه المسألة ما زالت تثير جدلا واسع النطاق في كثير من المواقع على الانترنت ، فقد استعنت بالله تعالى على إيضاح بعض الأمور المتعلقة برحلة الطائف ، وإلقاء الضوء على الدروس المستفادة ، والثمرات المستطابة التي يرزقها الله سبحانه وتعالى – بحوله وفضله وإحسانه- من يشاء من عباده الباحثين في بستان السيرة العطرة.
وقد وفّق الله عبدا فقيرا إلى عفوه وكرمه ورضوانه فاستخرج خمسة عشر درسا وثمرة من هذه الأطايب .ولعل آخرين من أهل العلم والفضل يهتدون إلى أكثر من ذلك بمشيئة الله .

وفيما يلي نعرض هذه الثمار والدروس والحكم البالغة ..
في البداية لابد من الإشارة إلى خطورة الكلام بهذا الأسلوب الذي يتسم يسوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم . فالكلام عنه أو عن أحد من إخوته الأنبياء- عليهم السلام أجمعين- ينبغي أن يكون بكل توقير و حرص وهيبة وحذر والتزام بما فرضه الله تعالى علينا من احترام لمقام الأنبياء الرفيع ، وفى إطار ما هو معلوم من الدين بالضرورة من أنهم ليسوا كغيرهم من البشر ، فهم معصومون من كل ما يشين ، تحوطهم رعاية الله تعالى وتوفيقه في كل لحظة . ولا يجوز مطلقا الحكم على نتائج أعمالهم بمقاييس البشر التي تبقى أبدا ساذجة و سطحية وقاصرة.
وأقل ما يمكن أن يقال عن هذا الوصف للرحلة المباركة بأنها : " محاولة فاشلة" أنه نتيجة حتمية لنقص نصيب القائل من العلم بالسيرة العطرة ، فهو يهذى بما لا يدرى!!
ثم من أين جاء برقم 25 هذا ؟! من أين أتى بهذا القول :" فشلت 25 محاولة للرسول"؟!!
هذا الهذيان لم أجد له أثرا إطلاقا في أي مرجع علمي محترم من المراجع الموثوق بها في السيرة العطرة!!!
سبحانك.. هذا باطل نبرأ إليك منه، ومن عمل كل من ينشره، ومن قول كل من يصرّ علي التمسك به. .ولا يقولن أحد أن النصيحة هنا يجب أن تكون سرّية ، فقد بثّت تلك الأباطيل علانية ، و تلّقاها ملايين المشاهدين عبر تلك القناة الفضائية ثم عشرات المواقع على شبكة الانترنت ، فوجب تصحيح هذا علانية أيضا كيلا يفتتن العوام بمثل هذه الجهالات الشنيعة .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
لقد كان من الممكن- جدلا- أن نلتمس بعض العذر لهذا القائل لو أن أحدا لم يؤمن بالرسالة طوال الفترة التي زعم أنها شهدت 25 محاولة فاشلة ، لكن الواقع والتاريخ يثبتان أن عددا كبيرا من خيار الناس كانوا قد أسلموا خلال تلك الفترة من عمر الدعوة .
أين الفشل إذا كان قد دخل في الإسلام- في تلك الفترة- "أبو بكر " وحمزة بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وسعد بن أبى وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وبلال بن رباح وعمار بن ياسر وصهيب الرومي وخباب بن الأرت ومئات آخرين رضي الله عنهم، ثم عمر بن الخطاب بعدهم ، منهم من كان يجهر باعتناق الحق ، ومنهم من كان يخفى إسلامه تجنبا لبطش المشركين ؟!!
والله إن كل واحد من هذه النجوم الساطعة في سماء البشرية لترجح كفته بالملايين من غيرهم .. كل واحد منهم هو " أمّة "كاملة ولو كان وحده .. وحاشا لله أن تكون قد "فشلت محاولات" من هداهم الله به إلى الحق والفلاح .

***

ومن يقرأ ويتأمل – بهدوء وتعقل وبصيرة – تفاصيل رحلته عليه الصلاة و السلام إلى الطائف سوف يجد أنها أثمرت الكثير من الإنجازات والدروس والعبر العظيمة التي لم تكن لتتحقق بدونها ، وبالتالي فقد نجحت نجاحا تاما بكل المقاييس .
لقد لقي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه – السابقون الأوّلون – رضوان الله عليهم كل ألوان الأذى والبطش والاضطهاد من طواغيت قريش الذين بذلوا أقصى ما في وسعهم للقضاء على الدعوة المباركة بلا جدوى ..
وتلك هي سنّة الله في الذين خلوا من قبل.
ولأن رسالة الإسلام عامة لكل الخلق ، فمن البديهي ألا يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوة قريش فقط . وهكذا بدأ عليه السلام في التحرك لدعوة المقيمين بمناطق أخرى خارج مكة المكرّمة .
في شوال من السنة العاشرة بعد بدء نزول الوحي ‏[‏في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م‏]‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة حوالي ستين ميلًا، مشاها على قدميه الشريفتين ذهابا و إيابا.
ومن المعلوم بالضرورة كذلك أنه قد اتجه إلى الطائف بأمر من الله تعالى ، فهو عليه السلام لا يفعل هذا من تلقاء نفسه .والله سبحانه لا يأمر بشيء إلا لعلمه الأزلي بما فيه من حكم بالغة، سواء علمها الخلق أم جهلوها.
لم يكن معه إلا الله تعالى ثم مولاه زيد بن حارثة. وروى ابن إسحاق أنه بعد وصول النبي عليه الصلاة والسلام إلى الطائف اجتمع بثلاثة من رؤساء ثقيف، هم الإخوة عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي. دعاهم إلى الله وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم‏:‏ هو يَمْرُط ثياب الكعبة ‏[‏أي يمزقها‏]‏ إن كان الله أرسلك‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أما وَجَدَ الله أحدًا غيرك، وقال الثالث‏:‏والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولًا لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك‏.‏ فقام عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم‏:‏ ‏[‏إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني‏]‏‏.‏ طلب منهم ذلك حتى لا تشمت به قريش ، وتزداد إجراما وبطشا بأصحابه.

وأقام الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف عدة أيام..لم يترك أحدًا من أشرافهم إلا دعاه إلى الإسلام ، فتطاولوا‏ عليه وطردوه ‏.، ثم أغروا به سفهاءهم فلاحقوه وهو يخرج من الطائف ، يسبّونه ، ويرمونه بالحجارة، حتى دميت قدماه الشريفتان وسالت على نعليه الدماء‏.‏ حاول زيد بن حارثة أن يحمي رسوله وحبيبه ومولاه بنفسه حتى أصابوه رضي الله عنه بارتجاج في المخ لكثرة ما تلقاه من ضربات. ولم يزل السفهاء يرمونهما بالأحجار حتى لجأ الرسول وصاحبه إلى حائط – بستان – لعتبة و شيبة ابني ربيعة على بعد ثلاثة أميال من الطائف، فرجعوا عنهما.
(( هنا لقّننا الحبيب صلى الله عليه وسلم الدرس الخالد الأول ، وهو الثبات على الحق وتحمل
كل الأهوال والأذى والمشقات في سبيل الدعوة إلى الله .
كما علّمنا زيد رضي الله عنه–بدوره -درسا ثانيا هو: أن ندافع عن الرسول والرسالة بالنفس والنفيس . ولو لم يكن في الرحلة الخالدة من دروس وعبر إلا هذا لكفى)) .

***

جلس صلى الله عليه وسلم تحت شجرة عنب وراح يناجى ربه بدعائه الشجي المؤثر الذي تعلّمه منه (( درسا ثالثا))كل مسلم يمرّ بشدّة أو بلاء أو محنة إلى قيام الساعة :
«اللهُمَّ إنِّي أشْكُو إليْكَ ضَعْفَ قَوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وهَوَانِي عَلى النَّاسِ. يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأنْتَ رَبِّي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلَى بَعِيدٍ يُتَجَهَّمُنِي أو إلى عَدُوَ مَلَّكْتَه أمْرِي، إن لمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي، ولكِن عَافِيَتَكَ هي أوْسَعُ لِي. أَعوُذُ بِنُورِ وجْهِكَ الذِي أشْرَقَتْ بِه الظُلُمَاتُ وصَلُحَ عَلَيهِ أمْرُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ من أنْ تُنْزِلَ بي غَضَبَك، أو تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، و لاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ» . (1)
فلما رآه ابنا ربيعة شعرا نحوه بالعطف – لأنهما من أقاربه – فأمرا غلامًا لهما نصرانيًا اسمه عَدَّاس بأن يعطى محمدا قطفًا من العنب ‏.‏ وضع عدّاس العنب بين يدي الحبيب صلى الله عليه وسلم فمد يده إليه قائلًا‏:‏ ‏(‏باسم الله ‏ )‏ ثم أكل‏.‏
(( نلاحظ هنا درسا رابعا في جواز قبول هدية وضيافة الكافر للمسلم عند الضرورة وجواز أكل طعامه))
سيطرت على عدّاس‏ دهشة بالغة . لقد كان يعلم أن سكان مكة وما حولها مشركون يعبدون الأصنام ، فمن أين لمحمد هذا – ذكر اسم الله تعالى على الطعام -.قال عدّاس للنبي متعجّبا : إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. سأله صلى الله عليه وسلم‏ :‏ ‏(‏من أي البلاد أنت‏؟‏ وما دينك‏؟‏) قال عدّاس ‏:‏ أنا نصراني من أهل نِينَوَى‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏( من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى‏)‏‏..‏ زادت دهشة وعجب عدّاس فسأل النبي :‏ وما يدريك ما يونس ابن متى‏؟‏ أجاب صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي‏)‏. فأكبّ الغلام على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها باكيا ‏.‏
(( درس خامس للدعاة : أنه صلى الله عليه وسلم استثمر حتى لحظات الاستراحة القصيرة ، رغم الأوجاع والآلام والإصابات البالغة في جسده الشريف ، في دعوة الغلام إلى الإسلام كما نلاحظ))

قال ابن ربيعة لأخيه ‏:‏ أما غلامك فقد أفسده عليك‏.‏ فلما جاء عدّاس صاحا به ‏:‏ ويحك ما هذا‏؟‏ أجاب :‏ يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي ، قالا له بغيظ شديد ‏:‏ ويحك يا عدّاس ، لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه‏.‏ وهكذا أسلم عدّاس رضي الله عنه.
(( وتلك ثمرة سادسة من ثمرات الرحلة المباركة.
ونتعلّم من عدّاس بدوره درسا بليغا (( سابعا)) هو أن الإنسان ينبغي عليه قول الحق وإتباعه فورا بلا اعتبار لرأى المجتمع أو حجم التضحيات أو المخاطر التي قد يتعرض لها ، فانه لم يعبأ برأي سيده وأخيه واعتراضهما ، وجهر بتأييد الحق والإيمان بالله و بالرسول ، رغم ما قد يصيبه بسبب ذلك)) .
ولم يكن هو وحده الذي أسلم بسبب تلك الرحلة ، فقد أسلم عدد من عبيد الطائف لكنهم ظلّوا يكتمون إيمانهم – في رأى كاتب هذه السطور-إلى أن تمكنوا من الفرار من بطش سادتهم ، ولحقوا بالمسلمين بعد ذلك فأعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم(2) ..ولو لم يذهب الرسول في رحلته الأولى تلك إلى الطائف فكيف كانت الفرصة ستأتي إلى هؤلاء جميعا للعلم بالإسلام ثم الدخول فيه ؟!! (( وهى الثمرة الثامنة))
وهذا هو الحال في كل الرسالات السماوية ، إذ جرت سنّة الله تعالى على أن يكون أكثر من يتّبعون الحق هم الضعفاء والأرقاء ، وأن يكون أعداء الرسل هم الطواغيت وزعماء القوم الذين تهدّد رسالة الإيمان والعدالة والمساواة مصالحهم وحياتهم المترفة الناعمة ، وامتيازا تهم الظالمة على حساب باقي البشر.
ثم إن واجب الرسول – كل رسول- هو الدعوة والبلاغ فحسب ، وأما النتائج – الهداية- فهي بيد الله وحده لا شريك له .ولو كان نجاح الدعوة يقاس بعدد الأتباع فحسب لظنّ بعض السطحيين والجهلة أن نبيّا عظيما مثل سيدنا نوح عليه السلام قد أخفق أيضا – حاشا لله – لأنه عاش يدعو قومه إلى التوحيد ألف سنة إلا خمسين ، ولم يؤمن معه إلا عدد قليل من الناس حملتهم سفينة واحدة .
وهناك الحديث المتفق عليه الذي أخبر فيه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أنه يأتي يوم القيامة أكثر الأنبياء أتباعا ، وأن من الأنبياء من سوف يأتي ومعه الرجل الواحد ، ومنهم من سيأتي ومعه الرجلان ،ومنهم من سيأتي وليس معه أحد. (نص الحديث في الصحيحين)
و كذلك نورد جزءا من حديث رواه الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال 🙁 …وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجلٌ واحد ) .هل يعيب نبيا عظيما أنه لم يؤمن به أحد من قومه ؟!! بل ماذا يمكن أن يقال – لو قبلنا هذا المنطق الأحمق – عن أنبياء عظماء قتلهم أقوامهم، وخاصة من قتلهم اليهود لعنهم الله ؟!! أتقولون عن الشهداء الأبرار أنهم قد فشلوا أم أنهم فازوا فوزا عظيما يغبطهم عليه كل من سواهم؟!
إن الرسل عليهم السلام جميعا قد أدّوا الأمانة وبلّغوا الرسالة على أتم وأكمل وجه ، وليست الكثرة دليلا على الحق أو النجاح ، فالنبي هو الحقّ ، وهو الأمّة ولو كان وحده، ولم ولن يدخل في الإسلام إلا من شاء الله .

ومن ينشط للدعوة ويؤدى واجبه في إبلاغ الرسالة فقد نجح تماما بغض النظر عن النتائج. وهناك آيات كثيرة حاسمة تفيد صراحة أنه ليس على الرسول إلا البلاغ – أي التبليغ – أو الإبلاغ والإرشاد والإيضاح فحسب ومنها :
1- (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [سورة المائدة: 92].
2- وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [سورة النحل: 35].
3- فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [سورة النحل: 82].
4- قلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [سورة النور: 54].
5- وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [سورة العنكبوت: 18].
6- وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ )سورة يس: 17).
والهداية بيد الله وحده لا شريك له :(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) سورة القصص الآية 56 .وآية كريمة أخرى تقول صراحة : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
سورة البقرة الآية 272 .
وعلى ضوء ما تقدم نعلم يقينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنجز المقصود الأعظم وهو دعوة القوم إلى الله ، ونجح كل النجاح في رحلته المباركة.

***

و في طريق العودة إلى مكة -بعد خروجه صلى الله عليه وسلم من البستان – بعث الله سيدنا جبريل ومعه ملك الجبال إلي الرسول صلى الله عليه وسلم، يستأذنه في أن يطبق الجبلين – يهدمهما- على رؤوس الكافرين أي: أن يهلكهم جميعا ‏.‏
روى البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن يونس عن ابن شهاب قال حدثني عروة أن عائشة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي عليه السلام هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من أحد ؟ فقال "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت على وجهي، وأنا مهموم، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي فقال يا محمد ذلك لك، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا" .
وهكذا يطمئن الله تعالى نبيه ويؤازره بجنود من الملائكة لا قبل للكافرين بهم ولا طاقة لهم بحربهم. لكنه عليه الصلاة والسلام تأخذه الرحمة والشفقة بقومه رغم كل ما فعلوه به وبأصحابه، ويأبى نزول العذاب بهم ، ويؤثر أن يعطيهم الفرصة تلو الأخرى لعلهم يهتدون أو يخرج من أولادهم وأحفادهم من يعبد الله. و لا عجب فهو الذي أرسله ربه: (( رحمة للعالمين)) الأنبياء الآية 107. صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا
(( وهنا نتعلّم الدرس التاسع في: الصبر والتأني وعدم تعجيل العقاب للكفّار لعلهم يهتدون أو تهتدي ذرياتهم . ونجد هنا أيضا أحد الأدلة على نبوته عليه السلام، فقد تحقّق بالفعل ما أخبر به من إسلام أبناء المشركين فيما بعد، وهى الثمرة العاشرة من ثمار الرحلة ))

***

بلغ عليه الصلاة و السلام " وادي نخلة" ، وأقام فيه أيامًا‏.‏ وهناك كان على موعد مع نصر عظيم أخر‏.‏
فقد بعث الله تعالى إليه نفرًا من الجنّ أمنوا به ، و ذكرهم الله سبحانه في موضعين من القرآن‏:‏ ‏‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله ِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[سورة ‏الأحقاف‏:‏29‏-‏ 31‏]‏‏.‏
وقال تعالى فى موضع أخر ‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا‏}‏ ‏[‏ سورة الجن‏: ‏الآيتان الأولى والثانية ‏]‏‏.‏
وهكذا أسلم الجنّ ونصروا دين الله في وقت كان أكثر البشر فيه ضالون لا يعقلون شيئا ولا يهتدون !!
((وهى الثمرة الحادية عشرة للرحلة))
فكأن الله تعالى يثبّت فؤاد الحبيب بهذا الفتح بعدما حدث له في الطائف ، ولسان الحال يقول : لئن خذلك البشر فإن ربهم ورب كل شيء معك ، يؤيدك بمن وبما يشاء من خلقه (( وما يعلم جنود ربك إلا هو )) سورة المدثر الآية رقم 31 .
وما حيلة البشر الضعفاء – من المشركين- في مواجهة قوى الملائكة والجنّ الجبّارة ؟!!
وأي إنجاز أو نجاح أعظم من إسلام الجن وتأييد الملائكة ؟! ..و هل هذا قليل ؟؟!!
ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث تحمل بشارات انتشار الدعوة المباركة ، وتؤكد أن أية قوة في الكون لن تستطيع أن تحول بينها وبين الانتصار ولو بعد حين ‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ الله ِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏32]‏، ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ الله َ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏12‏]‏‏.‏

***

وكل عمل عظيم يحتاج إلى وقت ليؤتى ثماره ، والناس يختلفون في العقول و الطباع والمشاعر والمصالح والأهداف ، فلن يجتمعوا كلهم على عقائد أو أفكار واحدة ، ولن يدخلوا كلهم في الإسلام بلمسة عصا سحرية أو في وقت واحد .
وكثيرون ممن هداهم الله إلى الإسلام على مرّ الزمان استغرقوا سنين عددا في البحث والدراسة حتى اقتنعوا بالحق واّمنوا به .
والزارع الذي يضع البذور في التربة بعد إصلاحها ثم يرويها ، يكون قد أدى واجبه ولا يقال عنه أنه قد "فشل" .. أما الإنبات ثم النمو ثم الثمار فبيد الخالق وحده لا شريك له .

***

ونأتي الآن إلى عودته عليه السلام إلى مكة . فقد سأله زيد بن حارثة‏:‏ كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك‏؟!‏ يعنى قريشًا، فقال‏ صلى الله عليه وسلم بكل يقين :‏ ‏(‏يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه‏)‏‏.
‏(( وهذا هو الدرس الثاني عشر : لابد من اليقين المطلق والثقة التامة بموعود الله ، ومهما طال الليل فلابد من طلوع الفجر وسطوع الشمس. وهنا أيضا تأكيد آخر ودليل من دلائل نبوته عليه السلام ، حيث أخبر زيدا بما جرى بعد ذلك بسنوات من الفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ، وما جاء من الانتصار بعد الحصار )).
وسار الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة مكث بحِرَاء، وبعث رجلًا من خزاعة إلى الأخنس بن شَرِيق ليجيره، فقال‏:‏ أنا حليف، والحليف لا يجير ، فأرسل إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل‏:‏ إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدى، فقال المطعم‏:‏ نعم ، ثم تسلّح ودعا بنيه وقومه ، و أمرهم بحمل السلاح ومشاركته في حماية النبي لأنه قد أجاره .. ثم أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن ادخل، فأقبل صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهي إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى‏:‏ يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، وانتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدى وولده حوله يحمونه حتى دخل بيته‏.‏
وقيل‏:‏ أن أبا جهل سأل مطعمًا‏:‏ أمجير أنت أم متابع ـ مسلم-‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ بل مجير‏.‏ فقال‏ الطاغية :‏ قد أجرنا من أجرت‏.‏
"وقد حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أسري بدر‏:‏ ‏(‏لو كان المطعم بن عدى حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له‏)‏‏".‏(3) انتهى .

(( وهكذا يعطينا الرسول عليه الصلاة و السلام الدرس الثالث عشر وهو: جواز طلب الاستعانة بغير المسلم في حالات الضرورة .
ثم الدرس الرابع عشر وهو وجوب" رد الجميل " ومكافأة من يسدى إلينا معروفا ولو كان كافرا)).

***

وشاء الله تعالى أن تأتي رحلة أخرى عظيمة – بعد رحلة الطائف – تكريما للحبيب وتشريفا له ،وتطييبا لقلبه الشريف ، وتثبيتا له وللمؤمنين معه، وهى رحلة الإسراء والمعراج التي رفع الله فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى السماوات السبع، وأوحى إليه خلالها ما أوحى ، وأراه من آيات ربه الكبرى .
وهكذا تأتى "المنحة" بعد" المحنة" ، ويأتي العطاء بعد الابتلاء .
(( وهى الثمرة الخامسة عشرة للرحلة الخالدة إلى الطائف)) .

***

وأما محاولة الاستدلال على جواز استخدام وصف " الفشل "بقوله تعالى { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }الآية 152 من سورة أل عمران

فهو خطأ أشد جسامة من الخطأ الأول، لأنه سوء فهم فاحش لمعنى الآية، بالإضافة إلى دلالته على المكابرة والإصرار على استخدام تعبير "الفشل" الرديء الذي لا يجوز استخدامه أبدا مع المقام النبوي الشريف .
عافانا الله من القول بغير علم !!
ولو أن هذا القائل وأمثاله رجعوا إلى أمهات كتب التفسير لوجدوا أن كبار العلماء مثل الطبري والقرطبى وابن كثير والشوكانى و النسفى والرازي و غيرهم -رضي الله عنهم – قد أكدوا جميعا أن الكلام هنا عن الرماة الذين عصوا أوامر النبي صلى الله عليه وسلم – في غزوة أحد- بالبقاء في موقعهم الحصين أعلى الجبل لحماية ظهر المسلمين وعدم ترك الموقع مهما كانت نتيجة المعركة ، حتى لا يؤتى المسلمون من قبلهم . وقد وقع الفشل المذكور بعد تنازع الرماة ورفضهم الاستماع إلى قائدهم عبد الله بن جبير الذي نهاهم عن عصيان الأمر النبوي الشريف ، لكنهم تركوا مواقعهم واندفعوا ليشاركوا في جمع الغنائم بعد أن انهزم المشركون في بداية المعركة . وانتهز الكفّار هذه الفرصة فالتفوا من وراء جيش المسلمين فوقعت هزيمة أحد ..

والوصف الوارد في الآية بالفشل والتنازع والعصيان لا يشمل فعل ولا شخص النبي الكريم أبدا ، فهذا كلام لا يمكن أن يقوله عاقل فضلا عن عالم .
بل الفشل والخيبة والخسارة في مخالفة أوامره و الهدى الذي جاء به عليه الصلاة والسلام .. ونلاحظ أيضا ما قررته الآية الكريمة ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) وهو ما يقطع بأن الكلام كله عن الرماة .. فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره قولهم : ما علمنا أن من أصحاب النبي من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية . فالسياق كله يتحدث عن فشل وتنازع وعصيان الرماة ، ثم أوضح المفسّرون – مثل الحسن البصري رضي الله عنه – أن الذين تركوا مواقعهم من الرماة هم الذين يريدون الدنيا ، ومن ثبتوا وأطاعوا الرسول هم الذين يريدون الآخرة. رضي الله عنهم ورضوا عنه .(4)

بل إن الهزيمة في أحد جاءت تأكيدا للمنهج وانتصارا له ، لأن هؤلاء لو انتصروا رغم مخالفتهم أوامر الرسول عليه السلام ، لتكررت المخالفات بعد ذلك ، ولحسب كثير من الناس أن العصيان لن يضرهم شيئا، فيحدث بسبب ذلك خلل وفتنة وفساد كبير . فكان لابد من درس قاس هو الهزيمة واستشهاد سبعين مسلما كي يثوب الجميع إلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعصونه بعد ذلك أبدا .
والخلاصة أن وصف الفشل والتنازع والعصيان الوارد في الآية يستحيل شموله للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلا حجّة هنا للجهلة . والله تعالى أعلى و أعلم .

——————————————————–
(1) يقول بعض علماء الحديث أن هذا الدعاء لا إسناد له، رغم أنه مذكور في كل كتب السيرة العطرة تقريبا -عند ابن إسحاق وغيره – كما رأيته في تفسير ابن كثير رضي الله عنه، ذكره ضمن كلامه تفسيرا للآية 29 من سورة الأحقاف، وأورده السهيلى فى الروض الأنف ، وذكره الإمام ابن القيم أيضا في "زاد المعاد" الجزء الأول . وأورده أبو الفرج بن الجوزى في " الوفا بتعريف فضائل المصطفى" . وليس من المعقول أن يثبته كل هؤلاء الفحول في كتبهم بغير دليل.. والله تعالى أعلم بالصواب.
(2) روى الإمامان أبو داود وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما حديث عبيد الطائف الذين أعتقهم الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خرجوا إليه مسلمين . وقال الإمام الشوكانى في نيل الأوطار :" وقد روي أنهم ثلاثة وعشرون عبدا من الطائف من جملتهم أبو بكرة كما ذكره البخاري في المغازي ، وفيه رد على من زعم أن أبا بكرة لم ينزل من سور الطائف غيره ، وهو شيء قاله موسى بن عقبة في مغازيه وتبعه الحاكم . وجمع بعضهم بين القولين أن أبا بكرة نزل وحده أولا ثم نزل الباقون بعده وهو جمع حسن، و قوله :أبا بكرة اسمه نفيع بن الحارث ، وكان مولى الحارث بن كلدة الثقفي ، فتدلى من حصن الطائف ببكرة فكني أبا بكرة لذلك ، أخرج ذلك الطبراني بإسناد لا بأس به من حديث أبي بكرة" . ( نيل الأوطار -الجزء الثامن- طبعة دار الحديث).
(3) للمزيد عن السيرة النبوية العطرة طالع : سيرة ابن هشام والسيرة النبوية للذهبي والسيرة النبوية لابن كثير والطبقات الكبرى لابن سعد وفقه السيرة لمحمد الغزالي والروض الأنف للسهيلى والسيرة النبوية لمحمد على الصلابى والشفا بتعريف المصطفى للقاضي عياض ، والوفا بتعريف فضائل المصطفى لابن الجو زى و زاد المعاد لابن القيم و الرحيق المختوم للمباركفورى و حياة محمد لمحمد حسين هيكل.

(4) انظر تفسير الآيات البيّنات الواردة ضمن هذا المقال في الجامع لأحكام القراّن للإمام القرطبى ، وتفسير القراّن العظيم للإمام ابن كثير، وتفسير الإمام الطبري، وفتح القدير للشوكانى ، ومفاتح الغيب للرازي، وتفسير الإمام النسفى ، وتفسير الإمام السيوطى ، وتفسير الإمام البيضاوي، وفى ظلال القراّن لسيد قطب ، وزاد المسير لابن الجو زى والمنتخب في تفسير القراّن الكريم لمجموعة من العلماء –طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر ، وغيرها من أمهات كتب التفسير.

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

السبب في عدم زواج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة رضي الله عنها حتى ماتت السنة النبوية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

&lt/body&gt

السؤال:لماذا لم يتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم على أمنا خديجة رضي الله عنها ، وهي على قيد الحياة؟

الجواب :
الحمد لله
روى مسلم في صحيحه (2426) عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : ( لَمْ يَتَزَوَّجْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَاتَتْ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وَهَذَا مِمَّا لَا اِخْتِلَاف فِيهِ بَيْن أَهْل الْعِلْم بِالْأَخْبَارِ , وَفِيهِ دَلِيل عَلَى عِظَمِ قَدْرهَا عِنْده وَعَلَى مَزِيد فَضْلهَا ، لِأَنَّهَا أَغْنَتْهُ عَنْ غَيْرهَا ، وَاخْتَصَّتْ بِهِ بِقَدْرِ مَا اِشْتَرَكَ فِيهِ غَيْرهَا مَرَّتَيْنِ , لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ بَعْد أَنْ تَزَوَّجَهَا ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ عَامًا ، اِنْفَرَدَتْ خَدِيجَة مِنْهَا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا وَهِيَ نَحْو الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمَجْمُوع , وَمَعَ طُول الْمُدَّة فَصَانَ قَلْبهَا فِيهَا مِنْ الْغَيْرَة وَمِنْ نَكَد الضَّرَائِر الَّذِي رُبَّمَا حَصَلَ لَهُ هُوَ مِنْهُ مَا يُشَوِّش عَلَيْهِ بِذَلِكَ , وَهِيَ فَضِيلَة لَمْ يُشَارِكهَا فِيهَا غَيْرهَا " انتهى .
"فتح الباري" (7/137) .

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
"و لم يتزوج في حياتها بسواها ، لجلالها و عظم محلها عنده " .
"الفصول في سيرة الرسول" ، لابن كثير(104) .
وقال أيضا ـ في وجوه تفضيل خديجة رضي الله عنها ، وتعداد مناقبها :
" .. وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت ، إكراما لها ، وتقديرا لإسلامِها " انتهى .
"البداية والنهاية" (3/159) .

على أنه سواء أعرفنا وجه الحكمة في ذلك أم لم نعرفه ، فإجلال المؤمن لنبيه صلى الله عليه وسلم وتوقيره له ، ونصرته وتعزيره : واجب بمقتضى إيمانه به ، واتباعه لرسالته . قال الله تعالى : ( إ ِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) الفتح/8-9 .
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله :
" أي: بسبب دعوة الرسول لكم ، وتعليمه لكم ما ينفعكم ؛ أرسلناه لتقوموا بالإيمان بالله ورسوله ، المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع الأمور. { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } أي : تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتوقروه أي : تعظموه وتجلوه ، وتقوموا بحقوقه ، كما كانت له المنة العظيمة برقابكم .
{ وَتُسَبِّحُوهُ } أي: تسبحوا لله { بُكْرَةً وَأَصِيلا } أول النهار وآخره .
فذكر الله في هذه الآية : الحق المشترك بين الله وبين رسوله ، وهو الإيمان بهما ، والمختص بالرسول ، وهو التعزير والتوقير ، والمختص بالله ، وهو التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها".
انتهى. من " تفسير السعدي" (792) .
ثم إن مثل هذه الأمور هي قضايا أعيان : لا يترتب عليها عمل ولا تكليف ، فإذا تبين المؤمن منها وجها بينا في الحكمة ، مناسبا لما علمه من أصول الشرع ، وقواطع الاعتقاد : فبها ونعمت ، وإلا ، فحسبه ما ظهر له من مقاصد الشرع ووجوه الحكم ، ولا حاجة به إلى تكلف التنقير عما لا يترتب عليه عمل ، ولا يتعلق به كبير فائدة .
والله تعالى أعلم .
موقع الإسلام سؤال وجواب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

هل مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة عشر سنين أو ثلاث عشرة سنة ؟ من السنة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يخرج أناس علينا بهذا الحديث في محاولة لدحض الحق : الحديث في البخاري الجزء السابع كتاب 72 رقم (787) ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ ، وَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ وَلَا بِالْآدَمِ ، وَلَا بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا بِالسَّبِطِ ، بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وحديث آخر عن ابن عباس: " بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَرْبَعِينَ سَنَةً ، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ، يُوحَى إِلَيْهِ ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ ، فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ"

فما قولكم في الفرق بين الحديثين ؟ ، وكيف يجمع بينهما ؟

الجواب :
الحمد لله

أولا :
المشهور الذي عليه جمهور أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة قبل النبوة أربعين سنة ، وأقام بها بعد النبوة ثلاث عشرة سنة ، وأقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين ، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة – صلى الله عليه وسلم .
قال النووي رحمه الله :
" وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَعْد الْهِجْرَة عَشْر سِنِينَ , وَبِمَكَّة قَبْل النُّبُوَّة أَرْبَعِينَ سَنَة , وَإِنَّمَا الْخِلَاف فِي قَدْر إِقَامَته بِمَكَّة بَعْد النُّبُوَّة , وَقبلَ الْهِجْرَة ، وَالصَّحِيح أَنَّهَا ثَلَاث عَشْرَة , فَيَكُون عُمْره ثَلَاثًا وَسِتِّينَ , وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْس أَرْبَعِينَ سَنَة هُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاء " انتهى .
وهذا هو منطوق ما رواه البخاري (3902) ومسلم (2351) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً ، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ " .

وأما ما رواه البخاري (3547) ومسلم (2347) ـ أيضا ـ عن أَنَس بْن مَالِكٍ ، يَصِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كَانَ رَبْعَةً مِنْ الْقَوْمِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ ، لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ وَلَا سَبْطٍ رَجِلٍ ، أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ ، فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ ، وَقُبِضَ وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ ).
فللعلماء في الجمع بين الحديثين طرق:
الأولى : إلغاء الكسر في حديث أنس ، وإثباته في حديث ابن عباس ؛ فيكون حديث ابن عباس قد دقق في عد السنوات ، وأما حديث أنس فقد اهتم بذكر العشرة ( العقد ) ، ولم يعتن بنقل الكسر الزائد عليها ، وهي طريقة للعرب ، حيث كانت أمة أمية .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قَوْله : ( فَلَبِثَ بِمَكَّة عَشْر سِنِينَ يَنْزِل عَلَيْهِ ) مُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ عَاشَ سِتِّينَ سَنَة , وَأَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَنَس " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ " وَهُوَ مُوَافِق لِحَدِيثِ عَائِشَة الْمَاضِي قَرِيبًا وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُور , وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ : لَا بُدّ أَنْ يَكُون الصَّحِيح أَحَدهمَا , وَجَمَعَ غَيْره بِإِلْغَاءِ الْكَسْر " انتهى من " فتح الباري " (6/570) .
وقال النووي :
" اتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ أَصَحّ الرّوايَات ثَلَاث وَسِتُّونَ … وَرِوَايَة سِتِّينَ اِقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى الْعُقُود وَتَرْك الْكَسْر " انتهى من " شرح مسلم " (15/99) .
وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر الاختلاف :
" وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَنَسٍ ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَثِيرًا مَا تَحْذِفُ الْكَسْرَ " انتهى .
"البداية والنهاية" (5/ 257) .

والذي يدل عليه أن كل من رُوى عنه من الصحابة ما يخالف المشهور جاء عنه رواية تضبط العدد ، على حسب القول الآخر المشهور .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قَوْله : ( لَبِثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة عَشْر سِنِينَ يَنْزِل عَلَيْهِ الْقُرْآن وَبِالْمَدِينَةِ عَشْر سِنِينَ ) وَهَذَا ظَاهِره أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ سِتِّينَ سَنَة ، إِذَا اِنْضَمَّ إِلَى الْمَشْهُور أَنَّهُ بُعِثَ عَلَى رَأْس الْأَرْبَعِينَ , لَكِنْ يُمْكِن أَنْ يَكُون الرَّاوِي أَلْغَى الْكَسْر كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي الْوَفَاة النَّبَوِيَّة , فَإِنَّ كُلّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَاشَ سِتِّينَ أَوْ أَكْثَر مِنْ ثَلَاث وَسِتِّينَ ، جَاءَ عَنْهُ أَنَّهُ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ .
فَالْمُعْتَمَد أَنَّهُ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ , وَمَا يُخَالِف ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يُحْمَل عَلَى إِلْغَاء الْكَسْر فِي السِّنِينَ , وَإِمَّا عَلَى جَبْر الْكَسْر فِي الشُّهُور " انتهى من " فتح الباري " (9/4) .

الطريقة الثانية : أن يحمل قول مَن قال : مكث ثلاث عشرة سنة ، على أنه عدّ ذلك من أول نزول الوحي ، وأما من قال : مكث عشرا ، فقد عدّ من بعد فترة الوحي ؛ فإن الوحي فَتَر زمنا ، ثم حمي وتتابع .
قال ابن كثير رحمه الله :
" قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ ، فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلُ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً عَشْرًا بِمَكَّةَ وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ ، فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
قال ابن كثير : فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الشَّعْبِيِّ ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ إِسْرَافِيلَ قُرِنَ مَعَهُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ " انتهى من "البداية والنهاية" (3/ 4) .
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/151):
" وَقَدْ جَمَعَ السُّهَيْلِيُّ بَيْن الْقَوْلَيْنِ الْمَحْكِيَّيْنِ بِوَجْهٍ آخَر , وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ : مَكَثَ ثَلَاث عَشْرَة عَدَّ مِنْ أَوَّل مَا جَاءَهُ الْمَلَك بِالنُّبُوَّةِ , وَمَنْ قَالَ : مَكَثَ عَشْرًا أَخَذَ مَا بَعْد فَتْرَة الْوَحْي وَمَجِيء الْمَلَك بِيَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر " انتهى .
وقال أيضا في الفتح (9/4):
" أَوْ أَنَّهُ عَلَى رَأْس الْأَرْبَعِينَ قُرِنَ بِهِ مِيكَائِيل أَوْ إِسْرَافِيل ، فَكَانَ يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَة أَوْ الشَّيْء مُدَّة ثَلَاث سِنِينَ ، كَمَا جَاءَ مِنْ وَجْه مُرْسَل , ثُمَّ قُرِنَ بِهِ جِبْرِيل فَكَانَ يَنْزِل عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ مُدَّة عَشْر سِنِينَ بِمَكَّة " انتهى .

والله تعالى أعلم .

موقع الإسلام سؤال وجواب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

فضل ابو بكر الصديق رضي الله عنه السنة النبوية

الخليفة الأول: أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -: واسمه عبد الله بن أبي قحافة، وسماه النبي – صلى الله عليه وسلم – صديقاً كونه صدّقه فيما كذبه فيه أكثر الناس من خبر الإسراء والمعراج، فضلاً عن كونه أول من آمنَّ به من الرجال، وهو رفيق النبي في هجرته، وصاحبه في الغار، وملازمه في كل حياته، وله فضائل كثيرة عرفها له النبي – صلى الله عليه وسلم – وسجلها له لتعرف له الأمة قدره، وقد ورد فيه قول الحق سبحانه: { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا }(البقرة:40) روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن أبا بكر – رضي الله عنه – حدّثه قال: قلت للنبي – صلى الله عليه وسلم – – ونحن في الغار- : لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: « ( يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) رواه البخاري ومسلم . فوصف الله أبابكر بالصحبة الخاصة المقتضية مزيداً من التشريف، وأشركه مع نبيه في المعية الإلهية المقتضية كمال العناية والحفظ .
ومن الأحاديث الواردة في فضل الصديق تصريحه – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن العاص أن أبا بكر أحب الرجال إليه، فعن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك ؟ فقال: ( عائشة، فقلت من الرجال ؟ فقال: أبوها، قلت: ثم من ؟ قال: عمر بن الخطاب فعدَّ رجالاً ) رواه البخاري ومسلم .
ومن دلائل فضله ما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمنّ علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر ) رواه البخاري ومسلم . وأمره – صلى الله عليه وسلم – بسد كل – خوخة – أي كل باب يوصِل إلى المسجد إلا باب بيته، وباب بيت أبي بكر إشارة – والله أعلم – إلى استحقاقه تولي الخلافة من بعده حيث كان المسجد في ذلك الزمان قصر الحكم، وساحة القضاء، ومكان تجهيز الجيوش وعقد الرايات .
وقد شهدت له الأمة بالفضل فعن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: كنا في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – لا نفاضل بينهم ) رواه البخاري . فهذه شهادة من صحابي عرفت الأمة له قدره أن أبابكر كان المقدّم فيهم، وكان أفضلهم، وشهادة أخرى من الخليفة الرابع علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – الذي حاول البعض إقامة سوق العداوة بينه وبين أبي بكر – رضي الله عنه – إذ يقول: – رضي الله عنه -: " ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها ؟ أبو بكر ، ثم قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر ؟ عمر " رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة .


موقع مقالات اسلام ويب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

هارون الرشيد من خيرة الخلفاء

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ذكرت بعض كتب التاريخ ولاسيما كتاب " ألف ليلة وليلة " عن خليفة المسلمين هارون الرشيد أنه لا يعرف إلا اللهو وأنه يشرب الخمور ويراقص الغانيات ويقربهن منه . أرجو أن تخبروني هل ما قيل عن هذا الرجل صحيح أم لا ؟

الحمد لله
"هذا كذب صريح ، وظلم قبيح ، فإن هذا الخليفة من خيرة الخلفاء ، وكان يحج عاماً ، ويغزو عاماً ، وقد فتح الله في زمنه الكثير من البلدان ، واتسعت رقعة الإسلام ، واستتب الأمن ، وعم الرخاء ، وكثر الخير ، بما لا نظير له ، ثم إن هذا الخليفة كان حسن السيرة والسريرة ، يجالس العلماء ، ويأخذ منهم ، ويسمع المواعظ ويبكي ، ويخشع ويكثر العبادة والتهجد والقراءة والذكر ، كما ذكر في سيرته المشهورة التي أفردت بالتأليف ، فأما هذا الكتاب فإنه أكاذيب مختلقة ، لا حقيقة لها ، وإنما لَفَّقَه شخص لا أمانه له ، وأراد بذلك شغل الأمة عن واجباتها ، وإضاعة الأوقات في قراءة أو سماع تلك الخرافات ، فلا يغتر به . والله الموفق" انتهى .
فضيلة الشيخ ابن جبرين حفظه الله .
"فتاوى إسلامية" (4/487) .
الإسلام سؤال وجواب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين الذين لم يروه – سنة النبي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الحمد للَّه
أولا :
لقد كان الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أرحم الناس وأرقَّهم ، يحب الخير لهم ، ويحرص على سعادتهم ونجاتهم ، ولن نجد أصدق من كلمات الله تعالى دليلا على ذلك :
يقول الله عز وجل :
( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) التوبة/128
وكان يحب أمته كثيرا ، يحمل هَمَّ نجاتها يوم القيامة ، ويرجو أن يكرمها الله سبحانه وتعالى بجنته ، حتى كان يبكي من شدة خوفه عليهم ورحمته بهم .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه :
( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) الْآيَةَ وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي . وَبَكَى . فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا جِبْرِيلُ ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ – وَرَبُّكَ أَعْلَمُ – فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ . فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ ، وَهُوَ أَعْلَمُ . فَقَالَ اللَّهُ : يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ : إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ ) رواه مسلم (202)
يقول النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (3/78-79) :
" هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد منها : بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ، واعتنائه بمصالحهم ، واهتمامه بأمرهم ، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة – زادها الله تعالى شرفا – بما وعدها الله تعالى بقوله ( سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك ) وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها " انتهى .

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لجميع أمته ، ويستغيث الله تعالى أن يجعلها أمةً مكرَّمةً مرحومةً ، حتى استجاب اللَّه له فجعل شطر أهل الجنة من أمته ، أو يزيد ، ورزقهم شفاعته يوم القيامة .

ثانيا :
من رحمته صلى الله عليه وسلم وحبه لأمته أنه خص مَن آمن به واتبعه ولم يره بمزيد فضل وخير :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( طُوبَى لِمَن آمَنَ بِي وَرَآنِي مَرَّةً ، وُطُوبَى لِمَن آمَنَ بِي وَلَم يَرَنِي سَبعَ مِرَارٍ )
رواه أحمد في "المسند" (3/155) وقال المحققون : حسن لغيره . وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1241) ، وقد جاء نحو هذا الحديث عن جماعة من الصحابة .
يقول النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (2/176) :
" وأما معنى طوبى : فاختلف المفسرون فى معنى قوله تعالى : ( طوبى لهم وحسن مآب ) فروي عن ابن عباس رضى الله عنهما أن معناه : فرح وقرة عين . وقال عكرمة : نِعم ما لهم . وقال الضحاك : غبطةٌ لهم . وقال قتادة : حسنى لهم . وعن قتادة أيضا : معناه أصابوا خيرا . وقال إبراهيم : خير لهم وكرامة . وقال ابن عجلان : دوام الخير . وقيل : الجنة . وقيل : شجرة فى الجنة . وكل هذه الأقوال محتملة فى الحديث والله اعلم " انتهى .

ثم بشر صلى الله عليه وسلم المؤمنين بعده ممن لم يره بأنه ينتظرهم عند الحوض الشريف :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبُرَةِ فَقَالَ :
( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي ، وَإِخْوَانِي الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ ؟ قَالَ : أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ بُهْمٍ دُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ )
( أنا فرطهم ) أي أنا أتقدمهم على الحوض ، ( دهم ) سود . "شرح النووي" (3/139)
رواه مسلم (249) والنسائي (150) واللفظ له ، وانظر "السلسلة الصحيحة" (2888)

فمن أراد أن يحصل هذه الفضائل فعليه أن يلتزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يتمسك بسنته ، حتى يفوز بصحبته في الجنة .
نسأل الله تعالى أن يكرمنا وإياكم بذلك من فضله ، إنه جواد كريم .
والله أعلم .

الإسلام سؤال وجواب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

قصة كعب بن مالك رضي الله عنه السنة النبوية


قصص رواها الصحابة رضوان الله عليهم (قصة كعب بن مالك رضي الله عنه )



بسم الله الرحمن الرحيم

تخلف كعب بن مالك [1] رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من السنة التاسعة للهجرة من شهر رجب فقال:
لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك.. تخلفت عنها وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتجهزوا جميعاً للخروج معه.

غير أني تخلفت كذلك في غزوة بدر أول قتال بين المسلمين والكافرين، ولم يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ممن تخلف عنها، فقد كان يريد عير قريش القادمة من بلاد الشام، فخرج ومن كان معه من أصحابه، لا يريدون قتالاً، لكن الله تعالى قدره لأمر يريده سبحانه، فجمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ونصرهم عليهم، فكان ذلك وسام فخر لمن حضرها، فكان يقال له: البدري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر في كل مناسبة مادحاً البدريين قائلاً:
((كأن الله اطلع عليهم فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).

ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، فكنت من أوائل الأنصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى أثرة علينا .. وأن نكون دعاة إليه سبحانه. وانطلقت الدعوة الوليدة إلى المدينة على أيدينا، فكنا لا نعدل بهذه البيعة مشهداً آخر، وما أحِبُّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرٌ أذكَرَ في الناس منها.

أما قصة تخلفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقد كانت درساً بليغاً لي ولغيري ممن عقلها. فقد كنت إذ ذاك غنياً موسراً، صحيح البنية قادراً على تجهيز نفسي لهذه الغزوة التي ندبنا إليها رسول الله دون عَنَتٍ أو تكلف، بل أستطيع تجهيز عدد ممن عذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفقرهم، أو ضعف ذوات أيديهم.

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها، وأوهم أنه يريد سواها، والحرب خدعة، فكان المشركون يُؤخذون على حين غَرّة، ويخافون أن يدهمهم المسلمون كل لحظة فكانوا – دائماً – على خوف ووجل، وزرع الله في قلوبهم الرعبَ والفزع فما يقرّ لهم قرار، وهكذا يجب أن يكون المسلمون مع أعدائهم .. إلا في هذه الغزوة فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بوجهته التي يريد، لأسباب عدة منها:
1- أن المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جداً.
2- وأن الطريق مفاوز وصحارى، يجب الاستعداد لها أتم الاستعداد.
3- وأن العدو قوي عدَّةً وعدداً، فهم الروم أكبر دولة، وأشرس عدو.
4- وأنه صلى الله عليه وسلم يريد تجنيد أوفى عدد من المسلمين، فأرسل إلى القبائل كلها يأمرهم أن يشتركوا في هذه الغزوة.
5- وأنه يريد أن يثأر للمسلمين في غزوة مؤتة من عدوهم الذي فاق عدده المسلمين عشرات المرات.
6- وأنه مصمم على إثبات وجود هذه الدولة الناشئة في جزيرة العرب، وعلى الروم أن يفكروا ألف مرَّة قبل أن يهاجموها.

وأجاب المسلمون نبيَّهم، فوفدوا إلى مدينته صلى الله عليه وسلم ، فكانت تعُج بهم، بعضهم حمل معه جهازه، ومنهم مَن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهِّزَه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى البذل والعطاء، فالأمر يحتاج إلى ذلك، وبذل المسلمون، فهذا الصديق رضي الله عنه يضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ ماله، وهذا عمر رضي الله عنه يقدم نصف ما يملك، وهذا ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه يجهِّز الحملة كلها، فقدّم ألف بعير محمّل بالزاد حتى دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم له بالخير، وبشره بالجنة فقال: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)).

ولم يبخل الصادقون منهم بما يستطيعون، وهل يمتنع المسلمون عن اكتساب فرص الفوز برضا ربهم جلَّ شأنه ونبيهم الكريم؟! إنها نفحات مَنْ تعرّض إليها أفلح ونجا.
ولم يكن هناك ديوان يجمع المسلمين، يحصيهم ويتابعهم، فالدولة ما تزال فتيّة، وكل جندي إذ ذاك متكفل بنفسه، فمن عنَّ على باله التأخر أو التخلف وعدم المشاركة في الغزو، فقد يضيع في زحمة هذا الزخم المتدفِّق على المدينة، ولن يعرف بغيابه أحد إلا إذا نزل فيه وحي يفضحه، ويكشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين أمره.

كان الصيف حاراً، والسفر ذا مشقة، ونفسي تميل للبقاء، فقد أينع الثمر وطابَ، وشدّتني ظلال الأشجار وبردُها إلى الأرض، فأنا أتأرجح بين الامتثال إلى دعوة الجهاد تحت راية الرسول المجاهد، وبين التثاقل إلى الدعة وخفض العيش، ورخاء الحياة، والبون شاسع بين هذه وتلك، فكنت أخرج أحاول تجهيز نفسي فأعود متثاقلاً لم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، ولم أزل على هذه الحال من التردد والتباطؤ حتى استمر الناس بالجد، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً.. الرغبة في صحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه الأبرار تشدني فأغدو لأجهز نفسي وأعد راحلتي وزادي، فأعود وقد اجتمع عليَّ شيطاني وحبُّ الأرض والمال والنساء والأولاد، فأراني اثاقلت إليها والتصقت بها حتى أسرعَ ركب الجهاد وتسابق، فخَلَتِ المدينة منهم، ثم ابتعدوا عنها وتفارطوا.

ما أشد وحشة المدينة مذ فارقها ضوءها، وما أشدَّ كآبتي فيها حيث خلا منها الحبيب والأنيس .. يا ويحي! أهذه المدينة التي أهواها؟ أراها باهتة!! أهذه المرابع التي ملأت قلبي فأحببتها وجاهدت عنها في أحد والخندق؟ غاب عنها النور، ابتعدت عنها مصابيح الهداية، غادرها المسلمون بقيادة هاديهم إلى مهمة عظيمة، يا ويحي!! ما لي أنظر في أرجائها فلا أرى فيها إلا المنافقين يرتعون ويمرحون.. أأنا منهم؟! رحماك يارب .. هؤلاء بعض الضعفاء من المسلمين جالسين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لضعفهم.. ولست منهم، فأنا صحيح الجسم معافى.. ما الذي أخّرني عن حبيبي وقرّة عيني.. رحماك يارب، وهؤلاء بعض المسلمين الفقراء جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يحملهم معه للجهاد فيعتذر حين لا يجد ما يحملهم عليه، فيتولّون باكين، وأعينهم تفيض من الدمع أن لم يجدوا ما يبلغون عليه تبوك.. وأنا غني ميسور.. رحماك يارب!! أي معصية حلت بي وأيُّ فتنة لزمتني؟!
أدور في أنحاء المدينة كاللديغ لا يقرُّ لي قرار، ثم أعود إلى بيتي وبستاني وزرعي وظلي وأهلي!! بئس ما صنعتُ .. رحماك يارب .. رحماك يارب ..

ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم: ((ما فعل كعب بن مالك؟)) واخجلتاه منك يا سيدي يا رسول الله! واخجلتي منك يا سيد المجاهدين وبطل المحاربين، قد خاب ظنك بكعب هذا.. ليت كعبا لم تلده أمه ..
تسأل عني يا رسول الله، فيجيبك رجل من بني سلمة يغمز من قناتي، وأنا أستحق ذلك بل أستحق أكثر من ذلك فيقول: يا رسول الله حبسه برداه، والنظرُ في عطفيه، منعه الإعجاب بماله والقعود بين أهل بيته في ظل ظليل وماء بارد .. حبسه تخلفٌ عن ركب الهداة الصالحين وإيثارُه الراحة على التعب، والرخاء على الشدة .. رحماك يارب رحماك يارب .. ويحسُّ معاذ بن جبل وهو أخي وصاحبي، يحسُّ بي وهو بعيد عني مئات الأميل، فيعلم أنني جواد أصيل كبا به حظُّه وخانه تفكيره وتدبيره، فيدفع عني هذه التهمة التي أستحقها، ويخفف من وَجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوجه إلى ذلك الرجل مؤنباً: بئس ما قلتَ، فالمسلم يلتمس لأخيه سبعين عذراً، فهلا قلت خيراً يا رجل .. ويلتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول راغباً في الدفاع المهدّئ الحاني: والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيراً.
رحمك الله يا أخي معاذ، وأجزل لك المثوبة، هكذا تكون الأخوُّة.. جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً.
ويسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينبس ببنت شفة، فلعله قصد من سؤاله أنه على علم بمن تبعه، ومن تخلّف عنه، وأن الفرق كبير بين من استجاب ولبى، ومن تخلّف وتكاسل.. نعم إن الفرق كبير والبَوْن واسع، وينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه، فيرى في قلب الصحراء المترامية الأطراف مِنْ بين السراب المتلألئ هيولى تتحرك باتجاه المسلمين، سرعان ما يظهر رجل يخب السير نحوهم، يلبس البياض.. ويبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد عرفه، إنه الصحابي الجليل أبو خيثمة الذي لم يستطع أن يقدّم لجيش المسلمين سوى صاع تمر، فلمزه المنافقون وضحكوا منه، وقالوا: إن الله غني عن صاع هذا، ونسي هؤلاء الطاعنون العابثون أن الأعمال بالنيات، وأنّ دِرْهماً سبق ألف درهم.. لم يستطع الرجل أن يلحق بالمسلمين أوّل مسيرهم، فلحق بهم، بَعْدُ مسرعاً وسرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعبَّر عن سروره حين قال: ((كن أبا خيثمة)) فكان أبا خيثمة، وتمنى كعب لو فعل مثل ما فعل أبو خيثمة، ولكن سبق السيف العذل، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر جيش الروم ليعلمه كيف يكون الجهاد والقتال، وكيف يكون الصبر على المبدأ والدفاع عنه، لكنَّ الروم الذين عجبوا لصمود ثلاثة آلاف مسلم في غزوة مؤتة أمام مئة ألف منهم، هابوا وهم مئتا ألف أن يثبتوا أمام ثلاثين ألف مسلم، قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم – بطل الأبطال – ورأس المجاهدين فانسحبوا إلى الشمال مضحين بما كان لهم من مهابة وجبروت، راضين من الغنيمة بالإياب، لقد نصر الله نبيه بالرعب مسيرة شهر، فكيف وهو وجيشه على تخوم بلاد الشام؟!

قال كعب: فلما بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجّه قافلاً من تبوك، اشتد حزني، سوف أقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألني سبب تخلفي عنه، فماذا أقول له؟ أأكْذِبه متعللاً بما ليس من الحقيقة بمكان؟ وهل يليق بمن بايع رسول الله أن يكذب؟ حاشا وكلا، بمَ أخرج من سخَطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي .. وأنّى للباطل أن يكون ردءاً؟ إنه سرعان ما يزول حين يسطع ضياء الحقِّ، ويضمحل حين يبزغ فجر الصدق، أنا لست خائفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو رحيم ودود، يقبل العذر ولو كان صاحبه كاذباً، لكنني أخاف أن لا يرى في كعباً الذي كان يعرفه، فأسقط في ميزانه، وقد خاب وخسر من زلّت مكانته عند الصادق الأمين.. فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلَّ قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيء أبداً، فعزمت على الصدق معه، وإذا كان الكذب – ينجي – أحياناً فالصدق أنجى .. يا ربّ، هب لي لسان الصدق، ورضِّ عني نبيك وحبيبك..
وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين سنة المجيء من السفر، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون كعادتهم كاذبين، ليرضى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فليس من عمل الداعية أن يبحث وينّقب عما في نفوس الناس .. وجئت أمشي إليه صلى الله عليه وسلم وقلبي يخفق ونَفَسي يتردد.. كيف يفعل حين تقع عيناه عليَّ.. لا بد أن آتيه، إنه قَدَري وأحْبِب به من قَدَرٍ سام عليَّ سامق صلى الله عليه وسلم ، فلما سلمت عليه، تبسَّم تبسم المغضب، تبُّسم الذي يعرف معادن الرجال، فيسألهم ليحفظم لهم ماء وجوههم، ثم قال: تعال.. بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هكذا كنت أٌقول في نفسي.. فقال لي: ((ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك واشتريت راحلتك؟))
قلت – خافضاً رأسي غاضاً بصري متجهاً إليه بكلّي: يا رسول الله؛ إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر، وسيرضى عني، لقد وهبني الله لسانا فصيحاً وبديهة حاضرة وجدلاً صائباً، ولكني والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عنّي ليوشكن الله يسخطك علي، وإن حدثتك حديث صدق يجعلك تغضب عليَّ فيه إني لأرجو حسن العاقبة بتوبة الله تعالى عليَّ إذ كنت صادقاً .. ولن أقول سوى الصدق يا رسول الله، والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قطُّ أقوى، ولا أيسر منّي حين تخلفت عَنك.

إن الإنسان العادي ليعرف من محدثه نبرة الصدق، وتهويم الكذب، فكيف برسول الله صلى الله وعليه وسلم الذي بلغ العلا بكماله، وكرمت جميع خصاله .. لقد قال صلى الله عليه وسلم : ((أمّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)) وقمتُ، وسار رجال من بني سلمة قومي فاتّبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجَزْت أن تعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبَكَ استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك،.. إنهم لم يريدوني أن أكذب.. إنما أرادوا أن أختصر الطريق إلى السلامة كما فعل الآخرون حين أبدوا الأعذار، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أني حملت نفسي ما لا لزوم له، فألحوا عليّ يؤنبونني على ذلك، ويكثرونه، حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكذّب نفسي وأدعي ما ادعاه المتخلفون الآخرون.

لكن الله ثبتني إذ قلت لهم: هل قال غيري مثل ما قلتُ، فأجابهم رسول الله بما أجابني؟ قالوا: نعم، رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قلت: من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع العَمْريُّ، وهلال بن أمية الواقفيُّ.. قلت: إنَّ لي بهما أسوة حسنة، فهما رجلان صالحان قد شهدا بدراً، ولن أكون إلا ثالثهما.. ومضيت حين ذكروهما لي.

إن الذهب يشتد لمعانه حين تلمسه النار فتُذهبُ عنه خبثه ويزداد تألقاً وحسناً وهكذا كنّا – أيها الثلاثة – فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمنا أحد، فاجتَنبَنا الناس، وتغيّروا لنا، كأنهم لا يعرفوننا، حتى تنكّرتْ لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيتيهما يبكيان، ويصليان، ويستغفران، ويسألان الله التوبة، وانقطعا عن الناس إذ كانا عجوزين هدّتهما المقاطعة، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم، وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد – إن المجتمع المسلم المتماسك يلتزم بأوامر القيادة وتعليماتها، ولا يدع للمخطئ مجالاً ينفذ منه، كي لا يتمادى في خطئه – وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت علي صلاتي نظر إليّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عنّي.

فالقائد قدوة، يلتزم بما يصدره من أوامر، فيكون لها من قوّة الأداء وحسن الالتزام عند العامة الأثر الإيجابي الطيب.. وأنا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نهى عن كلامنا إلا ليقضي الله تعالى فينا.. فيارب هيئ لنا من أمرنا رشداً..
حتى إذا طال ذلك عليَّ من جفوة المسلمين فاض ما في النفس من حزن وكرب، وانطلقت إلى ابن عمي أبي قتادة وهو من أحب الناس إليّ فعلوت سور بستانه، وسلمت عليه، فوالله ما ردَّ السلامَ، فقلت له: يا أبا قتادة أنشُدُك بالله! هل تعلمني أحبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فسكت .. وكيف يجيب، وقد امتنع عن ردّ السلام آنفاً التزاماً بأوامر رسول الله وإيمانا به؟.. فعدتُ فنشادته، فسكت .. فعدت فناشدته، فلما رأى ما بي من الحزن والألم نظر إليَّ مشفقاً فقال: الله ورسوله أعلم .. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسوَّرت الجدار، فبينا أنا أمشي في أسواق المدينة إذا نبطيُّ (فلاح) من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون إليَّ، حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأت فإذا فيه: أما بعدُ، فإنّه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضْيَعَةٍ، فالحق بنا نواسِك.
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، آمنت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً.

إنها الفتنة تُطلُّ عليَّ من أوسع أبوابها تدعوني إلى الكفر بعد الإيمان، وإلى الردّة بعد الثبات، إنني يا هذا لست في دار هوان ولا ذلّة، إنني في دار الهداية والرشاد، في كنف خير العباد، لئن جافاني لقد أخطأت، وما هي بجفوةٍ إن هي إلا عقوبة أستحقها، يطهرني الله بها ويمحو ذنبي، إنَّ هذا لمن البلاء، فتيممت بها التنّور فأحرقتها.. لن أضعف عن احتمال ما كتبه الله عليَّ، ولأصبرن حتى يكتب الله لي خير الدنيا والآخرة، حتى إذا مضت أربعون يوماً من الخمسين، وأبطأ الوحي إذا رسولٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلِّقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربنَّها.. فقلت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نافذ.. سمعاً وطاعة وإيمانا واحتساباً، وأرسل إلي صاحبيَّ بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله هذا الأمر.

فجاءت امرأة هلال بن أمية، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: ((لا، ولكن لا يقربنّك)). قالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي مُذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: لا أستأذنه فيها وأنا رجل شاب – فلبثت بذلك عشر ليالٍ – فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نُهيَ عن كلامنا.
اللهم مالك السماوات والأرض اجعل لنا فرجاً وهيّئْ لنا من أمرنا رشداً.

ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا – قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت – سمعت صوت صارخ صعِد على جبل سلْعٍ يقول بأعلى صوته: يا كعبُ بن مالك أبشر .. لم أتمالك نفسي إذا سمعتُ البشرى فخررت ساجداً لله أبكي وأحمده، أبكي وأستغفره، أبكي وأشكره، وعرفت أنه قد جاء الفرج من الله تعالى، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله عزّ وجلّ علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا.. أرأيت يا كعب عاقبة الصبر؟ إنها التوبة من الله تعالى، ينتظرها رسول الله لك ولصاحبيك، وينتظرها الناس لك ولصاحبيك، إنهم يحبونكم. أيها الثلاثة، هكذا المجتمع المسلم المتماسك، يلتزم أمر الله تعالى فيمتنع عن كلامكم، لا عن هجرٍ وقِلى، إنما عن امتثال وطاعة، وقلوب الجميع ترجو لكم التوبة والمغفرة.. ها قد جاءت، فسمعتَ صوت أحد إخوانك يبشرك، ولمّا يصل إليك.. انطلق جمع من المصلين يبشرون مُرارة بن الربيع وهلال بن أمية بما أنعم الله عليهما من التوبة، وامتطى أحدهم فرسه مسرعاً إليك، وسعى رجل من عشيرتك إليك مبتهجاً، فصعد الجبل فكان صوته أسرع من فرس ذاك، وفي كلٍّ فضلٌ وخيرٌ، ولم تتمالك نفسك أن نزعت ثوبك لصاحب الصوت، بل أعطيته ثوبك الثاني ولم تكن تملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين غيرهما وانطلقت إلى حَبِّ القلوب، وضياء الأفئدة، وصاحب الرسالة العظمى، انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتلقونك فوجا فوجاً يهنئونك بالتوبة، ويقولون لك: ليهنِك توبة الله عليك، حتى وصلت إلى المسجد ودخلته إلى رسول الله، العزيز عليه ما أعنتك، الحريصِ عليك، الرحيم بك وبالمؤمنين، فإذا هو يبرق وجهه من السرور فيقول لك: ((أبشر بخير يوم عليك مذ ولدتك أمُّك))، أهناك أجمل من هذه البشرى؟ أهناك أعظم من هذه البشرى؟ لا ورب الكعبة. فلم تتمالك نفسك أن قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: ((لا بل من عند الله عز وجل))، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر.. صلى الله عليه وحشرنا في زمرته وسقانا من حوضه وجعلنا إلى الجنة في ركابه.

قال كعب: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك))، وكأنه أحس أني في غمرة الفرح والسعادة قد أتخلى عما قد أضنُّ به إذا سكن فرحي وعادت إليَّ نفسي. فأمرني بالاحتفاظ ببعض مالي، فقلت: إني أمسك نصيبي الذي وهبتنيه في فتح خيبر، وقلت: يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أنعم الله عليه في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول اله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أنعم الله تعالى به عليَّ، والله ما تعمَّدتُ كذبة منذ قلتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي منه، لقد أنزل الله تعالى فينا معشر الثلاثة قوله: ) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ( حتى بلغ ) إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ( حتى بلغ ) اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ( [سورة التوبة].

قال كعب: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن لا أكون كذبته، فأهلِك كما هلك الذين كذبوا، إنّ الله تعالى قال للذين كذبوا حين أَنْزَل الوحي شرَّ ما قال لأحد، فقال الله تعالى: ) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) (
قال كعب: كنا خلّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه بذلك، قال الله تعالى: ) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ( وليس الذي ذكر مما خُلِّفنا تخلّفَنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه.

—————————————
[1] أحد المسلمين من الأنصار، أحد الثلاثة الذين خلّفوا.

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

128 سؤال وجواب – سنة النبي

ـ متى ولـد النبي صلى الله عليه وسلم وأيـن؟
ولد يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول في مكة.

عن أبي قتادة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: ذاك يوم ولدت فيه) رواه مسلم.
قال ابن القيم: (لا خلاف أنه ولد صلى الله عليه وسلم بجوف مكة، وأن مولده كان عام الفيل).
2 ـ ما هو نسب النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال ابن القيم: (هو خير أهل الأرض نسبًا على الإطلاق، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ….).
ولذلك لم يستطع أبو سفيان أن ينكر علو نسب الرسول صلى الله عليه وسلم على الرغم مما كان عليه من عداء للرسول قبل إسلامه فقال (هو فينا ذو نسب) متفق عليه.
3 ـ ما الحكمة من علو نسبه صلى الله عليه وسلم؟
حتى لا يكون لأعداء الإسلام سلاح في أيديهم للصد عن سبيل الله.
وحتى لا يتوهم متوهم أن رسالته ما هي إلا وسيلة لغاية وهي تغيير وضعه الاجتماعي.
وقال النووي (قيل أنه أبعد من انتحاله الباطل، وأقرب إلى انقياد الناس له).

يتبع

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

هل سبقت محاولات لنبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؟ – في الاسلام

هل سبقت محاولات لنبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
تذكر كتب التاريخ حوادث أربعة في محاولات نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، محاولتان تولَّى كِبرَهما بعضُ النصارى ، والثالثة والرابعة باء بإثمهما الحاكم العبيدي الزنديق الذي ادعى الربوبية .

المحاولة الآثمة الأولى :

تبوأ إثمها ووزرها الحاكم العبيدي الزنديق : منصور بن نزار بن معد المصري الإسماعيلي المدعي الربوبية ، قال فيه الذهبي "سير أعلام النبلاء (15/174) .
كان شيطانا مريدا جبارا عنيدا ، كثير التلون ، سفاكا للدماء ، خبيث النِّحلة ، عظيم المكر ، له شأن عجيب ، ونبأ غريب ، كان فرعون زمانه ، أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم ، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع " انتهى باختصار .
وقال السمهودي في "وفاء الوفا" (2/652)
وقد وقع بعد الأربعمائة من الهجرة ما نقله الزين المراغي عن "تاريخ بغداد" لابن النجار قال:
عن أبي القاسم عبد الحليم بن محمد المغربي : (( أن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي صاحب مصر بنقل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من المدينة إلى مصر ، وزين له ذلك .
وقال : متى تم لك ذلك شد الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر ، وكانت منقبة لسكانها .
فاجتهد الحاكم في ذلك ، وأعد مكاناً ، أنفق عليه مالا جزيلا . قال : وبعث أبا الفتوح لنبش الموضع الشريف ، فلما وصل إلى المدينة الشريفة وجلس بها حضر جماعة المدنيين وقد علموا ما جاء فيه ، وحضر معهم قارئ يعرف بـ " الزلباني " ، فقرأ في المجلس : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) التوبة/12، 13
فماج الناس ، وكادوا يقتلون أبا الفتوح ومن معه من الجند ، ولما رأى أبو الفتوح ذلك قال لهم :
الله أحق أن يخشى ، والله لو كان علي من الحاكم فوات الروح ما تعرضت للموضع ، وحصل له من ضيق الصدر ما أزعجه كيف نهض في مثل هذه المخزية

فما انصرف النهار ذلك اليوم حتى أرسل الله ريحا كادت الأرض تزلزل من قوتها ، حتى دحرجت الإبل بأقتابها ، والخيل بسروجها كما تدحرج الكرة على وجه الأرض ، وهلك أكثرها وخَلْقٌ من الناس ، فانشرح صدر أبي الفتوح ، وذهب روعه من الحاكم لقيام عذره من امتناع ما جاء فيه "
انتهى بتصرف

المحاولة الآثمة الثانية :

ويبدو أنها محاولة ثانية من الحاكم العبيدي أيضا ، ينقلها أيضا السمهودي في "وفاء الوفا" (2/653) فيقول :
ونقل ابن عذرة في كتاب "تأسي أهل الإيمان فيما جرى على مدينة القيروان" لابن سعدون القيرواني ما لفظه :
(( ثم أرسل الحاكم بأمر الله إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من ينبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل الذي أراد نبشه دارا بقرب المسجد ، وحفر تحت الأرض ليصل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فرأوا أنوارا ، وسُمِعَ صائح : إن نبيكم ينبش ، ففتش الناس ، فوجدوهم ، وقتلوهم " انتهى

المحاولة الآثمة الثالثة :

وقعت سنة (557هـ) في عهد السطان الملك العادل نور الدين زنكي رحمه الله ، وكان الذي تولى كبرها النصارى
رأى السلطان نور الدين رحمه الله في نومه النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول : أنجدني ، أنقذني من هذين .
فاستيقظ فزعا ، ثم توضأ وصلى ونام ، فرأم المنام بعينه ، فاستيقظ وصلى ونام ، فرآه أيضا مرة ثالثة .
فاستيقظ وقال : لم يبق نوم .
وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي ، فأرسل إليه ، وحكى له ما وقع له ، فقال له : وما قعودك ؟ اخرج الآن إلى المدينة النبوية ، واكتم ما رأيت
فتجهز في بقية ليلته ، وخرج إلى المدينة ، وفي صحبته الوزير جمال الدين .

فقال الوزير: وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد : إن السلطان قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحضر معه أموالا للصدقة ، فاكتبوا من عندكم . فكتبوا أهل المدينة كلهم ، وأمر السلطان بحضورهم .
وكل من حضر يأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها النبي صلى الله عليه وسلم له فلا يجد تلك الصفة ، فيعطيه ويأمره بالانصراف ، إلى أن انفضت الناس .
فقال السلطان : هل بقي أحد لم يأخذ شيئا من الصدقة ؟
قالوا : لا . فقال تفكروا وتأملوا .
فقالوا : لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئا ، وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج .
فانشرح صدره وقال : علي بهما .
فأُتي بهما فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليهما بقوله : أنجدني أنقذني من هذين
فقال لهما : من أين أنتما ؟
فقالا : من بلاد المغرب ، جئنا حاجين ، فاخترنا المجاورة في هذا المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : اصدقاني ، فصمما على ذلك .
فقال : أين منزلهما ؟
فأخبر بأنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة .
وأثنى عليهما أهل المدينة بكثرة الصيام والصدقة ، وزيارة البقيع وقباء ، فأمسكهما وحضر إلى منزلهما ، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه ، فرفع حصيرا في البيت ، فرأى سردابا محفورا ينتهي إلى صوب الحجرة الشريفة ، فارتاعت الناس لذلك .
وقال السلطان عند ذلك : اصدقاني حالكما ! وضربهما ضربًا شديدًا ، فاعترفا بأنهما نصرانيان ، بعثهما النصارى في حجاج المغاربة ، وأعطوهما أموالاً عظيمة ، وأمروهما بالتحيل لسرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانا يحفران ليلا ، ولكل منهما محفظة جلد على زي المغاربة ، والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته ، ويخرجان لإظهار زيارة البقيع فيلقيانه بين القبور ، وأقاما على ذلك مدة ، فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت ، وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاع تلك الجبال ، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة .

فلما اعترفا ، وظهر حالهما على يديه ، ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره ، بكى بكاء شديدا ، وأمر بضرب رقابهما ، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم ، وحفر خندقا عظيما حول الحجرة الشريفة كلها ، وأذيب ذلك الرصاص ، وملأ به الخندق ، فصار حول الحجرة الشريفة سورٌ رصاصٌ ، ثم عاد إلى ملكه ، وأمر بإضعاف النصارى ، وأمر أن لا يستعمل كافر في عمل من الأعمال .
ذكر هذه الحادثة جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأسنوي (ت 772هـ) في رسالة له اسمها : " نصيحة أولي الألباب في منع استخدام النصارى "
ويسميها بعضهم بـ "الانتصارات الإسلامية " نقلها عنه علي بن عبد الله السمهودي (ت 911هـ) في كتابه وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى " (2/648-650)
وذكرها الحافظ جمال الدين عبد الله بن محمد بن أحمد المطري (ت 765هـ) ، وكان رئيس المؤذنين في الحرم النبوي ، وهو مؤرخ ، له كتاب " الإعلام فيمن دخل المدينة من الأعلام " قال : " سمعتها من الفقيه علم الدين يعقوب بن أبي بكر عمن حدثه من أكابر من أدرك ، أن السلطان محمودا…وذكر القصة بنحو ما سبق مع اختلاف يسير
نقلا عن "وفاء الوفا" (2/650)

المحاولة الآثمة الرابعة :

يحدثنا عن هذه المحاولة العلامة الرحالة ابن جبير أبو الحسين محمد بن أحمد ، المتوفى سنة (614هـ) ، يذكرها في "رحلته" في أحداث سنة (578هـ) (ص/34-35) ، وذلك بعد وصوله إلى الإسكندرية ، حيث قال :
لما حللنا الإسكندرية في الشهر المؤرخ أولا – يعني ذي القعدة – ، عاينَّا مجتمعا من الناس عظيما بروزا لمعاينة أسرى من الروم أدخلوا البلد راكبين على الجمال ، ووجوههم إلى أذنابها وحولهم الطبول والأبواق ، فسألنا عن قصتهم ، فأخبرنا بأمر تتفطر له الأكباد إشفاقًا وجزعًا :
وذلك أن جملة من نصارى الشام اجتمعوا وأنشأوا مراكب في أقرب المواضع التي لهم من بحر القلزم – البحر الأحمر – ، ثم حملوا أنقاضها على جمال العرب المجاورين لهم بِكِراء – أي بأجرة – اتفقوا معهم عليه ، فلما حصلوا بساحل البحر سمروا مراكبهم ، وأكملوا إنشاءها وتأليفها ، ودفعوها في البحر ، وركبوها قاطعين بالحجاج ، وانتهوا إلى بحر النعم ، فأحرقوا فيه نحو ستة عشر مركبا ، وانتهوا " عيذاب " – اسم مكان – فأخذوا فيها مركبا كان يأتي بالحجاج من جدة ، وأخذوا أيضا في البر قافلة كبيرة تأتي من قوص " عيذاب " ، وقتلوا الجميع ولم يحيوا أحدا ، وأخذوا مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن ، وأحرقوا أطعمة كثيرة على ذلك الساحل كانت معدة لميرة مكة والمدينة أعزهما الله ، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع مثلها في الإسلام ولا انتهى رومي ذلك الموضع قط .
ومن أعظمها حادثة تسد المسامع شناعة وبشاعة ، وذلك أنهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإخراجه من الضريح المقدس
أشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم ، فأخذهم الله باجترائهم عليه ، وتعاطيهم ما تَحُولُ عنايةُ القدرِ بينهم وبينه ، ولم يكن بينهم وبين المدينة أكثر من مسيرة يوم ، فدفع الله عاديتهم بمراكب مرت من مصر والإسكندرية ، دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أنجاد المغربة البحريين ، فلحقوا العدو وهو قد قارب النجاة بنفسه فأخذوا عن آخرهم ، وكانت آية من آيات العنايات الجبارية ، وأدركوهم عن مدة طويلة كانت بينهم من الزمان ، نيف على شهر ونصف أو حوله ، وقتلوا وأسروا ، وفرق من الأسارى على البلاد ليقتلوا بها ، ووجه منهم مكة والمدينة ، وكفى الله بجميل صنعه الإسلام والمسلمين أمرا عظيما ، والحمد لله رب العالمين " انتهى

فهذه هي المحاولات التي وقفنا عليها ، والله تعالى حافظ جسد نبيه صلى الله عليه وسلم من أن تصل إليه أيدي أعدائه بسوء


لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده