أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
اسمه، نسبه، كنيته، إسلامه.
اسمه:
هو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، القرشي، الفهري، رضي الله عنه.
كنيته:
التي اشتهر بها أبو عبيدة، وقد غلبت كنيته على اسمه.
إسلامه:
أسلم قبل دخول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دار الأرقم، هاجر الهجرتين، ومن المهاجرين الأولين، ومن فضلاء الصحابة الأقدمين، شهد بدراً وشهد المشاهد كلها، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة، وكان رضي الله عنه يدعى في الصحابة القوي الأمين، وأمه هي من بنات عم أبيه؛ أسلمت.
أوصافه الخلقية:
كان رضي الله عنه نحيف الجسم، معروق الوجه، طوالاً، خفيف اللحية، خفيف العارضين، أهتم الثنيتين.
أوصافه الخلقية:
كان رضي الله عنه وضيء الوجه، بهي الطلعة، ترتاح العين لمرآه، وتأنس النفس للقياه، ويطمئن الفؤاد إليه، متواضعاً، شديد الحياء، وكان رضي الله عنه موصوفاً بحسن الخلق، والحلم الزائد، والتواضع.
ذكر شيء من فضائل أبي عبيدة بن الجراح:
لأبي عبيدة بن الجراح فضائل كثيرة، منها:
أن الله نوه بالثناء عليه ومدحه في كتابه المنزل ولو لم يسمه باسمه، والآية التي ذكر المفسرون أنها نزلت في أبي عبيدة هي قوله تعالى: ﴿ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ… ﴾ [المجادلة: 22]. لما قتل أباه يوم بدر كافراً.
وروي عن عبد الله بن شقيق، قال: «سألت عائشة رضي الله عنها: من كان أحب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: أبو بكر، ثم عمر، ثم أبو عبيدة بن الجراح؛ فانتهت إلى ذلك».
وقال أبو بكر يوم السقيفة: «لقد رضيت لكم أحد الرجلين؛ فبايعوا أحدهما: عمر بن الخطاب، أو أبا عبيدة بن الجراح».
وعن الحسن أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما من أحدٍ من أصحابي إلا لو شئت لأخذت عليه في خلقه، ليس أبا عبيدة». وهذا مرسل ورجاله ثقات.
ولما قدم وفد نصارى نجران، وأرادوا الرجوع إلى بلادهم؛ طلبوا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يرسل معهم رجلاً من أصحابه أميناً، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لأرسلن معكم أميناً حق أمين». حتى إن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كل منهم تشوف لهذا الفضل، ثم أرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح، وروي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة».
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: «ثلاثة من قريش أصبح الناس وجوهاً، وأحسنها أخلاقاً، وأثبتها حياءً، إن حدثوك؛ لم يكذبوك، وإن حدثتهم؛ لم يكذبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح».
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «أخلائي من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثلاثة: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة عامر بن الجراح».
وروي عن ثابت البناني أن أبا عبيدة قال: «أيها الناس! إني امرؤ من قريش، وما منكم من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني مكانه، -وفي لفظ: مسلاخه-».
وهو الذي انتزع حلقتي المغفر من وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم أحد حتى سقطت ثنيتاه.
وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها لما سئلت: من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مستخلفاً لو استخلف؟ قالت: «أبو بكر». فقيل لها: ثم من؟ قالت: «عمر». ثم قيل لها: ثم من؟ قالـت: «أبو عبيدة».
وروي أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما طعن قال: «لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً؛ لأستخلفته».
وعن سعيد المقبري قال: «لما أصيب أبو عبيدة قالوا لمعاذ بن جبل: صل بالناس، فصلى معاذ بهم، ثم خطب، فقال: أيها الناس! إنكم فجعتم برجل ما رأيت أحداً من عباد الله قط أقل حقداً ولا أبرأ صدراً ولا أبعد غائلة ولا أشد حياءً ولا أنصح للعامة منه، وذلك هو أبو عبيدة بن الجراح، فترحموا عليه، رضي الله عنه».
وقد روي عن خليفة بن خياط قال: «كان أبو بكر قد ولى أبا عبيدة بيت المال، ولم يكن بعد قد عد بيت المال على عهد أبي بكر، ولكن المراد أموال المسلمين».
وورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوماً لأصحابه: «كل منكم يتمنى أمنيته، فتمنى كل منهم ما يريد وما يرغب. فقال عمر رضي الله عنه: أما أنا؛ فإني أتمنى بيتاً ممتلئاً رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه». فما أعلى همة أمير المؤمنين! وما أصدق رغبته في الآخرة! رضي الله عن عمر.
ولما سمع معاذ بن جبل من ينتقص أبا عبيدة، خطب وقال: «إنه والله؛ لمن خيرة من يمشي على وجه الأرض».
يروى أن أمير المؤمنين عمر لما سمع عن وقوع الطاعون بالشام؛ كتب كتاباً مستعجلاً إلى أميره بالشام أبو عبيدة بن الجراح قائلاً فيه: «إني قد بدت لي بك حاجة لا غنى لي عنك فيها، فإذا أتاك كتابي؛ فإني أعزم عليك ألا تصبح إلا وأنت سائر إلي، لا تقعد بعد وصول خطابي هذا».
غير أن أبا عبيدة قد عرف قصد أمير المؤمنين عمر وهو خوفه على أميره الذي يساوي الدنيا عنده كلها بأكملها، ثم كتب إليه أبو عبيدة يعتذر منه، وأنه لا يتمكن من السير إليه، فلما جاء الكتاب إلى عمر وقرأه؛ بكى بكاءً شديداً، فقيل له: أمات أبو عبيدة يا أمير المؤمنين؟ قال: «لا، ولكن الموت منه قريب». فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاءه خبر وفاته. رضي الله عن الجميع.
قصة جبلة بن الأيهم رئيس الغساسنة مع أبي عبيدة:
كان أبو عبيدة بن الجراح بعيداً عن المجاملة والحيدة عن العدل بين الناس مهما كان اختلاف منازلهم.
لما كان في زمن ولايته على الشام روي أن جبلة بن الأيهم بعدما دخل في الإسلام، بينما هو يسير في طريقه في أسواق دمشق وطأ رجلاً من مزينة، فوثب المزني، فلطم وجه جبلة، فأخذ المزني، فانطلقوا به إلى أبي عبيدة الوالي، فقالوا: إن هذا لطم جبلة في وجهه. قال أبو عبيدة رضي الله عنه: فليلطمه في وجهه كما لطمه. قالوا: أوما يقتل؟ قال: لا. قالوا: ما تقطع يده؟ قال: لا، إنما أمر الله تعالى بالقصاص. قال جبلة عن ذلك: أو ترون أني جاعل وجهي نداً لوجه جدي، جاء من عمق، ثم ارتد نصرانياً. عياذاً بالله من الكبر، وترحل بقومه حتى دخل بلاد الروم.
فهذه القصة من المؤرخين يراها مع عمر، ومنهم من يراها مع أبي عبيدة.
ذكر شيء من زهد أبي عبيدة في الدنيا وخوفه وورعه:
قد روى لنا عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: «أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قدم الشام؛ تلقاه أبو عبيدة وهو أميره على الشام، فسايره حتى دخل عمر منزل أبي عبيدة، فقلب عمر بصره في بيت أميره؛ فلم ير فيه شيئاً سوى سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر، أين متاعك؟ قال أبو عبيدة: هذا يبلغنا المقيل. ثم إن عمر بكى وقال: كلنا غرتنا الدنيا غير أبي عبيدة؛ فإنه أخذ بزمام نفسه عنها».
روي: «أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى أبي عبيدة وهو أمير على الشام بأربعة آلاف درهم أو أربع مئة دينار، وقال عمر لرسوله: انظر ما يصنع بها أبو عبيدة. فعندما وصلت إليه؛ فرقها على المساكين والأيتام ولم يبق له منها شيئاً، فلما بلغ عمر ما صنع بها؛ قال: الحمد لله الذي جعل من المسلمين من يصنع بمثل هذا».
وروي: «أن أبا عبيدة بن الجراح مع شدة خوفه من الله، وورعه، وزهده، وكثرة عبادته، وما له من الفضائل في الصحبة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، والفتوحات الكثيرة على يده؛ مع ذلك كله يروى أنه قال: وددت أني كبشاً فذبحني أهلي وأكلوا لحمي ولم أك شيئاًَ».
هكذا حال أولياء الله الصالحين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، جمعوا بين الانقطاع في العبادة والخوف، رضي الله عنهم.
ذكر بعض الغزوات والفتوحات التي تولاها أبو عبيدة:
ثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر أبا عبيدة بن الجراح على سرية عدد جيشها ثلاث مئة يتلقون عيراً لقريش، وزودهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جراباً من تمر، فطال عليهم السفر والعدد كثير والتمر قليل، فكان أبو عبيدة يزود كل رجل تمرة تمرة يمصها وتكفيه يومه، فلما كانوا بساحل البحر، فإذا هم بعنبرة (أي حوتة من حيتان البحر) كأنها قطعة جبل، فأقاموا عليها ما يقارب شهراً يأكلون ويدهنون؛ حتى ترادت عليهم أحوالهم، وهذه تعرف بغزوة سيف البحر[1].
وقد أرسله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع نصارى نجران مرشداً ومعلماً وجابياً كما سبق ذكره.
ولما مات الصديق أبو بكر تولى الخلافة عمر بن الخطاب وعلى الجيوش الإسلامية بالشام خالد بن الوليد، عزل عمر خالداً وجعل مكانه أبا عبيدة بن الجراح؛ فتوالت على يديه الفتوحات، وبقي بالشام منذ تولى لأمير المؤمنين عمر يواصل الفتوحات إلى أن توفاه الله سنة ثماني عشرة هجرية.
ذكر شيء من وعظه ووصاياه القيمة:
روي: «أنه لما تراءى الجمعان في غزوة اليرموك؛ قام رضي الله عنه، فوعظ المسلمين، وقال: عباد الله! انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين! اصبروا؛ فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة لله ومدحضة للعار، ولا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم ولا تبدؤهم بالقتال، واشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق، والزموا الصمت؛ إلا من ذكر الله في أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله».
يروى: «أنه لما حضرته الوفاة؛ أوصى، فقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا، وحجوا واعتمروا، وتواصوا بالخير فيما بينكم، وانصحوا لأمرائكم ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا؛ فإن المرء لو عمر ألف عام ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، والسلام عليكم ورحمة الله».
هذا آخر ما أوصى به رضي الله عنه وأرضاه، اللهم صل على محمد.
كانت وفاته سنة ثماني عشرة من الهجرة بالشام، وسنه ثمان وخمسين سنة فما قيل.
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الشثري