وقد التقى في هذه المعركة المقهور بقاهره فشفي منه غيظه، وانتهت بخسارة فادحة لقريش، فقد قٌُتل سبعون رجلاً من أشرافهم، وأُسر منهم سبعون، وكان ممن قٌُتِل وأُسِر أبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وغيرهم من أئمة الكفر والضلال، وقد كان في قتلهم دليلا من دلائل نبوة النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ .
فمن دلائل نبوته ومعجزاته ـ صل الله عليه وسلم ـ ما أُطْلِع عليه من الغيوب الماضية والمستقبلية وإخباره عنها، وكما جاءت الأدلة على أن الله تبارك وتعالى قد اختُص بمعرفة علم الغيب وحده، جاءت أدلة أخرى تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، قال الله تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }(الجـن:27:26).
ومن الأمور الغيبية التي أخبر عنها النبي ـ صلى الله عليه سلم ـ ووقعت أثناء حياته إخباره عن مصارع الطغاة في يوم بدر . ففي اليوم السابق ليوم بدر، تفقد رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ أرض المعركة المرتقبة، وجعل يشير إلى مواضع مقتل المشركين فيها ..
فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: ( كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر، فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال فجعلت أقول لعمر : أما تراه؟، فجعل يقول لا يراه، قال: يقول عمر : سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي . ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر، فقال: إن رسول الله – صل الله عليه وسلم – كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول: هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، قال: فقال عمر : فو الذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله – صل الله عليه وسلم ـ )( مسلم ).
وكان النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ قبل ذلك في مكة قد دعا عليهم بأسمائهم، كما ذكر ذلك مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ قال: ( .. اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمدا ـ صل الله عليه وسلم ـ بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سُحِبوا إلى القليب قليب بدر )..
قال عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ : ( بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟، قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟، قال:أُخبِرْت أنه يسب رسول الله – صل الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا . قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها. قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال:فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله – صل الله عليه وسلم – فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال ـ صل الله عليه وسلم ـ: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح . والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء ) ( البخاري ) .
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ , قال : ( انطلق سعد بن معاذ معتمرا, قال : فنزل على أمية بن خلف أبى صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد ، فقال أمية لسعد : انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت؟، فبينا سعد يطوف إذا أبو جهل, فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ّ!، فقال سعد أنا سعد ، فقال أبو جهل : تطوف بالكعبة آمنا، وقد آويتم محمدا وأصحابه؟!، فقال : نعم, فتلاحيا بينهما , فقال أمية لسعد : لا ترفع صوتك على أبى الحكم، فإنه سيد أهل الوادي. ثم قال سعد : والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام , قال : فجعل أمية يقول لسعد : لا ترفع صوتك وجعل يمسكه، فغضب سعد فقال : دعنا عنك، فإني سمعت محمدا ـ صل الله عليه وسلم ـ يزعم أنه قاتلك, قال: إياي؟!، قال : نعم. قال والله ما يكذب محمد إذا حدث . فرجع إلى امرأته فقال : أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟, قالت: وما قال؟، قال : زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي، قالت: فو الله ما يكذب محمد. قال : فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟, قال : فأراد أن لا يخرج فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يوما أو يومين، فسار معهم , فقتله الله ) ( البخاري ) .
والله تعالى اعلم ،،