التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

فتنة معركة صفين .بين الإمام علي ومعاوية (رضي الله عنهما).. عند المؤرخين..3و4 السنة النبوية

المبحث الثالث

نهاية القتال والدعوة للتحكيم

لقد وصل حال الجيشين بعد ليلة الهرير إلى حد لا يطاق من القتل وإزهاق الأنفس المسلمة، وجاءت خطبة الأشعت بن قيس زعيم كندة في أصحابه ليلة الهرير فقال: قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ؛ فما رأيت مثل هذا قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إن نحن تواقفنا غدًا إنه لفناء العرب، وضيعة الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعًا من الحرب، ولكني رجل مسن، وأخاف على النساء والذراري غدًا، إذا نحن فنينا، اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ.
وجاء خبر ذلك إلى معاوية فقال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غدًا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلن أهل فارس على أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى، ثم قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القنا.

وهذه رواية عراقية لا ذكر فيها لعمرو بن العاص ولا للمخادعة والاحتيال، وإنما كانت رغبة كلا الفريقين، ولن يضير معاوية أو عمرًا شيء أن تأتي أحدهم الشجاعة فيبادر بذلك، وينقذ ما تبقى من قوى الأمة المتصارعة، إنما يزعج ذلك السبئية الذين أشعلوا نيران هذه الفتنة، وتركوا لنا ركامًا من الروايات المضللة بشأنها، تحيل الحق باطلاً، وتجعل الفضل – كالمناداة لتحكيم القرآن لصون الدماء المسلمة– جريمة ومؤامرة وحيلة، ونسبوا لأمير المؤمنين علي أقوالاً مكذوبة تعارض ما في الصحيح، ففي رواية أبي مخنف أن علياً قال عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم قتال عدوكم فإن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبى معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبى سرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم منكم قد صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال ويحكم إنهم ما رفعوها ثم لا يرفعونها ولا يعلمون بما فيها وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهنا ومكيدة فقالوا له ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله عز وجل فنأبى أن نقبله فقال لهم فإني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم هذا الكتاب فإنهم قد عصوا الله عز وجل فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السنبسي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك يا على أجب إلى كتاب الله عز وجل إذ دعيت إليه وإلا ندفعك برمتك إلى القوم أو نفعل كما فعلنا بابن عفان إنه علينا أن نعمل بما في كتاب الله عز وجل فقبلناه والله لتفلنها أو لنفعلنها بك قال قال: فاحفظوا عنى نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي أما أنا فان تطيعوني تقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدالكم.

ومن الشتائم قولهم عن رفع المصاحف: إنها مشورة ابن العاهرة ( )، ووسّعوا دائرة الدعاية المضادة على عمرو بن العاص – رضي الله عنه – حتى لم تعد تجد كتابًا من كتب التاريخ إلاّ فيه انتقاص لعمرو بن العاص، وأنه مخادع وماكر بسبب الروايات الموضوعة التي لفّقها أعداء الصحابة الكرام، ونقلها الطبري، وابن الأثير وغيرهما، فوقع فيها كثير من المؤرخين المعاصرين مثل حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام، ومحمد الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية، وعبد الوهاب النجار في تاريخ الخلفاء الراشدين وغيرهم كثير، مما ساهم في تشويه الحقائق التاريخية الناصعة. ( )

إن رواية أبي مخنف تفترض أن عليًا رفض تحكيم القرآن لما اقترحه أهل الشام، ثم استجاب بعد ذلك له تحت ضغط القرّاء الذين عُرفوا بالخوارج فيما بعد, وهذه الرواية تحمل سبًا من علي لمعاوية وصحبه يتنزه عنه أهل ذاك الجيل المبارك، فكيف بساداتهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي؟! ويكفى للرواية سقوطًا أن فيها أبا مخنف الرافضي المحترق؛ فهي رواية لا تصمد للبحث النزيه، ولا تقف أمام روايات أخرى لا يتهم أصحابها بهوى مثل ما يرويه الإمام أحمد بن حنبل عن طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل أحد رجال علي بن أبي طالب فقال: كنا بصفين، فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى عليٍّ المصحف؛ فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله سبحانه وتعالى "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ" ( ).

فقال علي: نعم، أنا أولى بذلك، فقام القُرّاء – الذين صاروا بعد ذلك خوارج – بأسيافهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين، ألا نمشي إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف الأنصاري -رضي الله عنه- فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين، ثم حدثهم عن معارضة عمر-رضي الله عنه- للصلح يوم الحديبية ونزول سورة الفتح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال علي: أيها الناس، إن هذا فتح، فقبل القضية ورجع، ورجع الناس. ( )
وأظهر سهل بن حنيف -رضي الله عنه- اشمئزازه ممن يدعون إلى استمرار الحرب بين الإخوة وقال: أيها الناس، اتهموا رأيكم على دينكم, وبيّن لهم أنه لا خيار عن الحوار والصلح، لأن ما سواه فتنة لا تعرف عواقبها، فقد قال: ما وضعنا بسيوفنا على عواتقنا إلى أمر إلاّ أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسدّ منها خصمًا إلاّ تفجّر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له ( ) .وفي هذه الروايات الصحيحة رد على دعاة الفتنة، ومبغضي الصحابة الذين يضعون الأخبار المكذوبة، ويضعون الأشعار وينسبونها إلى أعلام الصحابة والتابعين الذين شاركوا في صفين؛ ليظهروهم بمظهر المتحمس لتلك الحرب ليزرعوا البغضاء في النفوس ويعملوا ما في وسعهم على استمرار الفتنة.

إن الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية، وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة علي والبيعة له، تطوُّر فرضته أحداث حرب صفين؛ إذ إن الحرب التي أودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتجاهاً جماعيًا رأى أن وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة وصيانة قوتها أمام عدوها، وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في اتخاذ القرارات.
إن أمير المؤمنين عليًا -رضي الله عنه- قَبِل وقف القتال في صفين، ورضي التحكيم وعدَّ ذلك فتحًا ورجع إلى الكوفة، وعلّق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف، وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح من جديد.

إن وصول الطرفين إلى فكرة التحكيم والاستجابة له ساهمت فيها عدة عوامل منها:
أنه كان آخر محاولة من المحاولات التي بُذلت لإيقاف الصدام وحقن الدماء سواء تلك المحاولات الجماعية أو المحاولات الفردية التي بدأت بعد موقعة الجمل ولم تفلح، أما الرسائل التي تبودلت بين الطرفين لتفيد وجهات نظر كل منهما، فلم تُجْدِ هي الأخرى شيئًا، وكان آخر تلك المحاولات ما قام به معاوية في أيام اشتداد القتال حيث كتب إلى علي -رضي الله عنه- يطالبه بوقف القتال فقال: فإني أحسبك أن لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بك ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فإنا إن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقي منا ما ينبغي أن نندم على ما مضى ونصلح ما بقي .
وكذلك تساقط القتلى وإراقة الدماء الغزيرة ومخافة الفناء، فصارت الدعوة إلى إيقاف الحرب مطلبًا يرنو إليه الجميع، والملل الذي أصاب الناس من طول القتال، حتى وكأنهم على موعد لهذا الصوت الذي نادى بالهدنة والصلح، وكانت أغلبية جيش علي في اتجاه الموادعة، وكانوا يردّدون: قد أكلتنا الحرب، ولا نرى البقاء إلاّ عن الموادعة . وهذا ينقض ذلك الرأي المتهافت الذي رُوِّج بأن رفع المصاحف كان خدعة من عمرو بن العاص، والحق أن فكرة رفع المصاحف لم تكن جديدة وليست من ابتكار عمرو بن العاص، بل رُفع المصحف في الجمل ورشق حامله كعب بن سور قاضي البصرة بسهم وقُتل.
والاستجابة لصوت الوحي الداعي للإصلاح، قال تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ( ) ويؤيد هذا ما قاله علي بن أبي طالب حينما عُرض عليه الاحتكام إلى كتاب الله، قال: نعم أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتاب الله. ( )

المبحث الرابع

آراء المؤرخين في أحداث معركة صفين
ونقد بعض الروايات

لقد تخللت معركة صفين أحداث، ورويت عنها روايات تناولها العلماء والمؤرخون بالنقد والتمحيص، ومن هذه الآراء:

آراء العلماء والمؤرخين في مقتل الصحابي عمار بن ياسر:
قال ابن حجر تعليقاً على مقتل عمار بن ياسر:
"وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي وعمار، ورد على النواصب الزاعمين أن عليًا لم يكن مصيبًا في حروبه. وقال أيضًا: دل الحديث: تقتل عمارًا الفئة الباغية، على أن عليًا كان المصيب في تلك الحروب؛ لأن أصحاب معاوية قتلوه".( )
ويقول الإمام النووي:
"وكانت الصحابة يوم صفين يتبعونه حيث توجه لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة لهذا الحديث".( )
ويقول ابن كثير:
"كان عليّ وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق من أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبى سملة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: حدثني من هو خير مني – يعني أبا قتادة- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية» , وقال أيضًا: وهذا مقتل عمار بن ياسر – رضي الله عنهما – مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قتلة أهل الشام، وبان وظهر بذلك سر ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أنه تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن عليًا محق، وأن معاوية باغٍ، وما في ذلك من دلائل النبوة". ( )
ويقول الذهبي:
"هم طائفة من المؤمنين، بغت على الإمام علي، وذلك بنص قول المصطفى صلوات الله عليه لعمار: "تقتلك الفئة الباغية".( )
ويقول ابن تيمية:
"وهذا يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داعٍ إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داعٍ إلى النار- وإن كان متأوّلاً- وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي، وعلى هذا فمقاتله مخطئ – وإن كان متأوّلاً – أو باغٍ – بلا تأويل – وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليًا، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأوّلين, وقال أيضًا: مع أن عليًا أولى بالحق ممن فارقه، ومع أن عمارًا قتلته الفئة الباغية –كما جاءت به النصوص– فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوًى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة، فأما مَن تمسّك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف". ( )

نقد تهويل عدد القتلى:

تضاربت أقوال العلماء في عدد القتلى: فتذكر الروايات أنه قتل بصفين سبعون ألفاً: من أهل الشام خمسة وأربعون آلفا، ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً، وكان المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام.( ) وشهدت صفين تسعين وقعة بين الجيشين.( )
وأعتقد أن هذه الأرقام غير دقيقة، بل أرقام خيالية، فالقتال الحقيقي والصدام الجماعي استمر ثلاثة أيام مع وقف القتال بالليل إلاّ مساء الجمعة فيكون مجموع القتال حوالي ثلاثين ساعة، ومهما كان القتال عنيفًا، فلن يفوق شدة القادسية التي كان عدد الشهداء فيها ثمانية آلاف وخمسمائة، وبالتالي يصعب عقلاً أن نقبل تلك الروايات التي ذكرت الأرقام الكبيرة.

نقد الروايات الشيعية التي مجدت الإمام علي، وانتقصت من قدر معاوية:

تقدم الروايات صورة واحدة لعلي، يبدو التأثير الشيعي واضحاً فيها، فهو المحارب المقدام، والبطل الذي لا ينازع، ذو القوة الجسدية الخارقة، ورجل المآثر والمواقف الصعبة، وهو الصحابي الزاهد، والرحيم والعالم، وهو الأديب والشاعر الذي يمتلك اللغة الرصينة، والأسلوب الرائع. وقدم البلاذري واليعقوبي تفاصيل دقيقة لهذه الصورة، فعلي لديهما هو بطل العقيدة والعدل والحرب، وهو صاحب الحق والعلم والتقوى، والصدق دائماً، وعزز صاحب الإمامة والسياسة هذه الصورة، ويبدو دفاعه أقل حرارة من البلاذري واليعقوبي، وهو لا يتورع عن انتقاد علي أو معسكره.
وأما الطبري، المؤرخ والفقيه، فقدم صورة أقرب إلى التواضع على صفات علي وبطولته وقدرته، إذ حرص على التعامل معه كأحد الصحابة الأوائل، الذين وقع على كاهلهم انتشار الإسلام وانتصاره.
أما معاوية فشخصيته لا تحافظ على دماء المسلمين وترفض الاستجابة لدعوات علي المتكررة للمصالحة، وتحث قواتها على القتل والتنكيل، وهو رجل لا يمتلك من المزايا الحربية ما يؤهله ليكون قائداً، فهو يخاف مبارزة علي وقتاله، وهو سرعان ما يفكر بالهرب من ساحة المعركة عندما يشتد ضغط الجبهة العراقية على قواته، ولا يشارك معسكره القتال، بل "يجلس وعلى رأسه رجل قائم معه ترس ذهب يستره من الشمس"، وهو إنسان مخادع عديم الرحمة، يمنع الماء عن جند العراق العطاش، ويعرض الرشوة باستمرار على قيادات علي وجنده، بهدف إغوائهم للانضمام له، كما أنه يرفض دفن جثث القتلى العراقيين، ويدعو إلى قتل الأسرى، وتتسم قيادات جيشه بالجبن والخداع، وفي مقدمته عمرو بن العاص، أما قبائل الشام؛ فهي مترددة في قتالها، لأنها لا تقاتل عن الإيمان أو الهدف، إنما تقاتل حمية، ولذلك فإنها إن حققت مكاسب قتالية، فذلك ناجم عن أخطاء طارئة من الجانب العراقي. ( )
وعلى هذا فيجب التمعن جيداً في أخذ الروايات الشيعية التي رواها أبو مخنف، ونصر بن مزاحم، والتي وردت في الكثير من الكتب التاريخية، لأنها تعبر عن انحياز واضح لصالح علي ضد معاوية رضي الله عنهما.

نقد رواية باطلة تناولت عمرو بن العاص بصفين:


قال نصر بن مزاحم الكوفي: وحمل أهل العراق وتلقَّاهم أهل الشام فاجتلدوا وحمل عمرو بن العاص.. فاعترضه علي وهو يقول:
قد علمت ذاتُ القرونِ الميل والخصر والأنامل الطفول
إلى أن يقول: ثم طعنه فصرعه واتقاه عمرو برجله، فبدت عورته، فصرف علي وجهه عنه وارتُثَّ. فقال القوم: أفلت الرجل يا أمير المؤمنين. قال: وهل تدرون من هو؟ قالوا: لا. قال: فإنه عمرو بن العاص تلقّاني بعورته فصرفت وجهي. ( )
وذكر القصة ابن الكلبي كما ذكر ذلك السهيلى في الروض الأنف. وقول عليّ: إنه اتقاني بعورته فأذكرني الرحِمَ إلى أن قال:… ويُروى مثل ذلك عن عمرو بن العاص مع علي -رضي الله عنه- يوم صفين، وفي ذلك يقول الحارث بن النضر السهمي كما رواه ابن الكلبي وغيره:
أفي كلِّ يومٍ فارسٌ غيرُ منتهٍ وعورتُه وسط العجاجةِ باديـةْ
يكف لهـا عنـه علـيٌّ سنـانَهُ ويضحكُ منه في الخلاءِ معاويةْ ( )

والرد على هذا الافتراء والإفك المبين كالآتي:

أن راوي الرواية الأولى نصر بن مزاحم الكوفي صاحب وقعة صفين شيعي جلد لا يستغرب عنه كذبه وافتراؤه على الصحابة، قال عنه الذهبي في الميزان: نصر بن مزاحم الكوفي رافضي جلد، تركوه ، قال عنه العقيلى: شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير، وقال أبو خيثمة: كان كذابًا ( ) وقال عنه ابن حجر: قال العجلي: كان رافضيًا غاليًا..ليس بثقة ولا مأمون. ( )
وأما الكلبي؛ هشام بن محمد بن السائب الكلبي؛ فاتفقوا على غلوه في التشيع، قال الإمام أحمد: من يحدث عنه؟ ما ظننت أن أحدًا يحدث عنه. وقال الدار قطني: متروك ( ), وعن طريق هذين الرافضيْن سارت هذه القصة في الآفاق وتلقفها من جاء بعدهم من مؤرخي الشيعة، وبعض أهل السنة ممن راجت عليهم أكاذيب الرافضة, وتُعدّ هذه القصة أنموذجًا لأكاذيب الشيعة الروافض وافتراءاتهم على صحابة رسول الله؛ فقد اختلق أعداء الصحابة من مؤرخي الرافضة مثالب لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصاغوها على هيئة حكايات وأشعار لكي يسهل انتشارها بين المسلمين، هادفين إلى الغضّ من جناب الصحابة الأبرار– رضي الله عنهم– في غفلة من أهل السنة الذين وصلوا متأخرين إلى ساحة التحقيق في روايات التاريخ الإسلامي، بعد أن طارت تلكم الأشعار والحكايات بين القصّاص، وأصبح كثير منها من المسلمات، حتى عند مؤرخي أهل السنة للأسف.( )

مرور أمير المؤمنين عليّ بالمقابر بعد رجوعه من صفين:
لما انصرف عليّ أمير المؤمنين -رضي الله عنه- من صفين مرّ بمقابر، فقال: «السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكن تبعٌ، وبكم عمّا قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، الحمد الله الذي جعل الأرض كفاتًا، أحياءً وأمواتًا، الحمد لله الذي خلقكم وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم، وطوبي لمن ذكر المعاد وأعدّ للحساب، وقنع بالكفاء.( )

الخاتمة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم:
من خلال هذا البحث نستدل إلى أن معركة صفين كانت مفصلاً في تاريخ الأمة الإسلامية، حدث خلالها وبعدها خلاف سياسي أثر على التاريخ الإسلامي، وما زال تأثيرها ماثلاً للعيان حتى يومنا هذا، فانبثقت الاتجاهات والجماعات المختلفة مثل الشيعة والخوارج بعد هذه المعركة.
والدارس لهذه المعركة لابد أن يلتزم بشروط بمحددات معينة قبل أن يستنتج النتائج ومن هذه المحددات، أنه يدرس حياة رجال ليسوا كباقي الرجال، فمنهم رجال الصحابة الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، وتتلمذوا على يديه، علاوة على أن طرفي الصراع كانوا من المسلمين، حيث يقول الله عز وجل في حقهم: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم".
فلهذا نستنتج أن الفريقين اجتهدا لمصلحة الأمة والدين، ولم تكن أهدافهما دنيوية، فالإمام علي كان الخليفة الشرعي الذي تجب طاعته، ومعاوية أراد الثأر من قتلة عثمان، ولكن الإمام علي كان أحق من معاوية، وقد دلّ استشهاد الصحابي عمار بن ياسر وأكد أن معسكر علي كان أصوب من معسكر معاوية، وأن معسكر معاوية كان هو الباغي، والحديث هو "ويح عمار تقتله الفئة الباغية".
كما نستنتج أن كثير من الروايات كانت خاطئة وردت من مصادر شيعية متطرفة مثل أبي مخنف ونصر بن مزاحم، وهدفها تمجيد الإمام علي ومعسكره على حساب معاوية ومعسكره، فجاء في بعض الروايات أن عمرو كشف عن سوأته ليمنع الإمام علي من قتله، لأن الإمام علي كان معروفاً بالحياء، وهذه الرواية مغالية في الاتهام، فهي تنال من أحد كبار الصحابة المعروف بأنه من قادة المجاهدين الذين شاركوا في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وحروب الردة، وأحد قادة فتح الشام، وفاتح مصر وبرقة.
وكذلك الحال بالنسبة للصحابي معاوية بن أبي سفيان، فقد تناولته الروايات الشيعية بكثير من القدح والإساءة مما فندنا بعضها في هذا البحث.
وبناءً عليه فيجب أن تعاد صياغة التاريخ الإسلامي خاصة فيما يتناول أحداث الفتنة، على صعيد التعليم المدرسي والجامعي، وعلى صعيد الإعلام، وكتب الثقافة العامة.
وأخيراً أدعو الله تعالى أن يوفقني للصواب، إن ولي ذلك والقادر عليه..


المصادر والمراجع

أولاً: المصادر

– ابن الأثير، أبو الحسن عز الدين الشيباني (ت630هـ):
1. الكامل في التاريخ، تحقيق: أبو الفداء عبد الله القاضي، بيروت، دار الكتب العلمية.
– أحمد بن حنبل (ت241هـ):
2. المسند، بيروت، دار الفكر.
– البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي (ت256هـ):
3. الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، المعروف بـالجامع الصحيح، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1.
– البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين (ت458هـ):
4. دلائل النبوة، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، ط1، 1997م.
– التبريزي، محمد بن عبد الله الخطيب:
5. مشكاة المصابيح، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، بيروت، المكتب الإسلامي، ط3، 1443هـ=1985م.
– الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى،
6. الجامع الكبير، تحقيق: د. بشار عواد معروف، بيروت، دار الجيل + دار العرب الإسلامي، ط2، 1998م.
– ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد (ت728هـ):
7. مجموع فتاوى، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط1.
– الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد اللّه (ت405هـ):
8. المستدرك على الصحيحين، بيروت، دار المعرفة.
– ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر (ت852هـ):
9. الإصابة في تمييز الصحابة، بيروت، دار الجيل، 1412هـ=1992م.
10. لسان الميزان، بيروت، مؤسسة الأعلمي.
– الحميري، محمد بن عبد المنعم:
11. الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، مؤسسة ناصر للثقافة، ط2، 1980م.
– خليفة بن خياط العصفري (ت240هـ):
12. تاريخ، تحقيق: سهيل زكار، بيروت، دار الفكر، 1414هـ=1993م.
– الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ):
13. العبر في خبر من عبر، دار الفكر، ط1، 1997م.
14. سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وحسين الأسد، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط9، 1413هـ=1993م.
15. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق: محمد البجاوي، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.
– السهيلي، عبد الرحمن أبو القاسم (ت581هـ):
16. الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، دار الكتب العلمية، 1999م.
– الشافعي، محمد بن إدريس (ت204هـ):
17. الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة، مكتبة الحلبي، 1358هـ=1940م.
– ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان ابن أبي بسكر العبسي (ت235هـ):
18. المصنف، دار الفكر.
– الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب،
19. المعجم الكبير، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، الموصل، مكتبة العلوم والحكم، ط2، 1404هـ=1983م.
– الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (ت310هـ)،
20. تاريخ الرسل والملوك، القاهرة، دار المعارف.
– ابن عديم، أبو القاسم،
21. بغية الطلب في تاريخ حلب، تحقيق: سهيل زكار، بيروت، دار الفكر، 1988م.
– ابن العربي، أبو بكر (ت543هـ)،
22. العواصم من القواصم، الرياض، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ط1، 1419هـ.
– الفسوي، أبو يوسف يعقوب بن سفيان (ت277هـ):
23. المعرفة والتاريخ، نشر مكتبة الدار، المدينة المنوّرة ـ 1410هـ.
– ابن كثير، أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت774هـ):
24. البداية والنهاية، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1408هـ=1988م.
– ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد (ت273هـ):
25. سنن، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، 1995م.
– المزي، جمال الدين أبي الحجاج يوسف (ت742هـ):
26. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، ط4، 1406هـ=1985م.
– الم*****، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت345هـ):
27. مروج الذهب ومعادن الجوهر، بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، 1975م.
– المقريزي، تقي الدين (ت845هـ):
28. المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، دار الكتب العلمية، ط1، 1997م.
– ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم بن علي بن منظور (ت711هـ)
29. مختصر تاريخ دمشق، دار الفكر المعاصر للطباعة والنشر، ط1، 1998م.
– نصر بن مزاحم المنقري (ت212هـ):
30. وقعة صفين، تحقيق: عبد السلام هارون، بيروت، دار الجيل، 1410هـ=1990م.
– النووي، أبو زكريا محيي الدين بن شرف (ت676هـ):
31. تهذيب الأسماء واللغات، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الفكر.
– ياقوت الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي (ت626هـ):
32. معجم البلدان، بيروت، دار صادر، 1993م.
ثانياً: المراجع
• عدنان ملحم، المؤرخون العرب والفتنة الكبرى، القرن الأول – القرن الرابع الهجري، دراسة تاريخية منهجية، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، 1998م.
• الصلابي، علي بن أبي طالب شخصيته وعصره، دار المعرفة، ط5، 2022م.

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.