التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

عام الحزن حقائق وحِكم من السنة

هو العام العاشر من بعثته ـ صل الله عليه وسلم ـ ، فقد توفيت فيه أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ بعد وفاة عمه أبي طالب ، فابتلي رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ في حياته العامة والخاصة، إذ كانت خديجة ـ رضي الله عنها ـ من نعم الله الجليلة عليه ـ صل الله عليه وسلم ـ ، فقد آزرته في أحرج الأوقات، وأعانته على إبلاغ رسالته، وشاركته آلامه وآماله، وواسته بنفسها ومالها، وبقيت ربع قرن تحمل معه كيد الخصوم وآلام الحصار ومتاعب الدعوة، وماتت والرسول ـ صل الله عليه وسلم ـ في الخمسين من عمره وهي في الخامسة والستين، فحزن النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ عليها حزنا شديدا .

وكذلك حزن لموت عمه أبي طالب ، فقد كان الحصن الذي تحمى به الدعوة من هجمات الكبراء والسفهاء, وكان يحوط النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ ويغضب له وينصره، ومما زاد حزن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لموته أنه مات على الكفر. .
وبموت أبي طالب الذي أعقبه موت خديجة ـ رضي الله عنها ـ، تضاعف الحزن على رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ، ومن ثم أُطلِق على هذا العام عام الحزن..
لقد قضت حكمة الله تعالى، أن يفقد الرسول ـ صل الله عليه وسلم ـ عمه وزوجه ومن كان في الظاهر حاميا له حتى تظهر للصحابة والمسلمين من بعدهم حقائق وحِكم هامة، يستفيدون منها في حياتهم، ويستضيئون بنورها في واقعهم، وهي كثيرة، منها :
أظهر هذا العام بصورة واضحة، أن الحفظ والعناية والنصر من الله، فسواء وُجِد من يحمي رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ من الناس أَوْ لم يوجد، ستمضي دعوته وسينتصر دينه، لأن الذي ينصره في الحقيقة هو الله، قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (التوبة:33)، وقال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (غافر:51).
ثم إن الله ـ عز وجل ـ قد تكفل بحفظ نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الناس، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (المائدة: من الآية67).
قَال الشافعي : يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حتى تبلغ ما أنزل إليك..
وليس معنى العصمة من الناس أن لا يرى من الناس إيذاء أو اضطهادا.. فلقد قضت حكمة الله تعالى أن يذوق الأنبياء قدرا غير يسير من الأذى والمحن، إنما العصمة المذكورة في الآية العصمة من القتل، ومن أي عدوان أو صد من شأنه إيقاف دعوته ورسالته والقضاء عليها، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:( كان رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ يُحرس ليلا حتى نزلت { والله يعصمك من الناس }،فأخرج رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ رأسه من القبةفقال لهم: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله ) ( الترمذي )..

ولو أن أبا طالب بقي حيا إلى جانب النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ يحميه وينصره إلى أن تقوم الدولة الإسلامية في المدينة، وينتشر الإسلام هنا وهناك، لكان في ذلك ما يوهم أن أبا طالب كان وراء ذلك، ومن ثم ففي استمرار دعوته وانتشار رسالته ـ صل الله عليه وسلم ـ بعد موت عمه وزوجه، برهان واضح، ودليل ساطع، أن الذي يتولى حفظه وحمايته ونصره هو الله سبحانه ..

هذه حقيقة هامة، والحقيقة الأخرى التي تتعلق بهذه المرحلة من حياته،ـ صل الله عليه وسلم ـ، هي أن البعض يحسب أن حزنه الشديد، كان لمجرد فقده لعمه وزوجته، وربما استساغوا إقامة علامات الحزن والحداد على موتاهم مستدلين بهذا، وهذا خطأ، صحيح أن الحزن على فقد القريب الحامي لدعوة الحق، وعلى فقد الزوجة المؤمنة المخلصة، حزن تقتضيه طبيعة حب الدعوة والإخلاص لها، والوفاء للزوجة المثالية في تضحيتها وتأييدها، وقد كان هذا من أسباب حزنه ـ صل الله عليه وسلم ـ .

لكن مما زاد من حزنه ـ صل الله عليه وسلم ـ موت عمه على الكفر، وامتناعه أن يقول لا إله إلا الله قبل موته، ثم ما أعقب وفاة زوجته وعمه من انغلاق كثير من أبواب للدعوة في مكة..
إذ كان حرصه ـ صل الله عليه وسلم ـ على هداية الناس، وحزنه على أن لا يؤمنوا بالحق الذي جاء به، أمرا غالبا على نفسه، ومن أجل تخفيف هذا الحزن الشديد على رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ كانت تنزل الآيات القرآنية مواسية له، ومذكرة إياه بأن الهداية من الله، وأنه ليس مكلفا بأكثر من التبليغ، فلا داعي لأن يذهب نفسه على الذين لم يهتدوا حسرات، قال تعالى: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } (فاطر:8) ، وقال تعالى :{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (القصص:56)..

ومن الحكم الجليلة والحقائق الهامة من هذا العام ـ عام الحزن ـ من حياته ـ صل الله عليه وسلم ـ، الاقتداء به في الصبر والتحمل، فلو أن النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ عاش حياته مُعافى، ونجح في دعوته بدون أي مشقة وجهد وبلاء، لطمع أصحابه والمسلمون من بعده في أن يستريحوا كما استراح، ولاستصعبوا واستثقلوا الآلام والمحن التي قد يجدونها في حياتهم، وفي تبليغ دعوتهم، ومن ثم فمما يخفف وقع الألم والمحن على الصحابة ـ والمسلمين من بعدهم ـ، شعورهم أنهم يذوقون بعض ما ذاقه رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ، وأنهم يسيرون في الطريق ذاتها التي سار فيها وأوذي فيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

فمهما أصاب المسلم من ألم السخرية والاستهزاء والأذى، وفقد بعض الأهل والأحباب والأنصار، فإن ذلك لا يفت في عضده، ولا يضعف من قوته وسيره، بل يستسهل ويستعذب كل محنة وعذاب في سبيل الله، لأنه يشعر أنه يضرب مع رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ بنصيب مما عاناه وقاساه، فهو ـ صل الله عليه وسلم ـ القدوة والأسوة لكل مسلم في السراء والضراء، والدعوة إلى الله، قال تعالى :{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (الأحزاب:21)..

لم يكن عام الحزن الذي عاشه رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ خاتمة المطاف لتعبه وآلامه، بل كان حلقة ضمن حلقات طويلة، عاشها وخاضها، في سبيل دعوته ورسالته، وأعطى المسلم في كل زمان ومكان، القدوة الحسنة والنموذج الأمثل ..

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.