هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في رمضان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد أرسل الله-تعالى-رسوله محمد – عليه الصلاة والسلام – هادياً ومعلماً للناس جميعاً، ولا يحصل إسلامٌ صحيح للعبد إلا باتباع ما جاء به في كل صغيرة وكبيرة، فاتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – أحد ركائز دين الإسلام وأساسياته، ومن أعظم مسلَّمات الشريعة والأمور المعلومة منها بالضرورة، وقد استفاضت النصوص الشرعية في بيان ذلك والتأكيد عليه، ومن ذلك قوله -عز وجل-: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا سورة الحشر: 7، وقوله -عز وجل-: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا سورة النساء: 80.
والواجب على المسلم معرفة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته واتباعه والاقتداء به، قال -عز وجل-: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا سورة الأحزاب: 21. ومن ذلك هديه -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، واتباعه في ذلك ..
أولاً: القصد من الصوم:
قال ابن القيم -رحمه الله-: 1"لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترَك محبوبات النفس، وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌ بين العبد وربه لا يطّلع عليه سواه، والعبادُ قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم، وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها, ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال-تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ سورة البقرة: 183.
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "الصوم جُنَّة2", وأمر من اشتد عليه شهوة النكاح، ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة3.
وكان هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيه أكمل الهدي، وأعظم تحصيل للمقصود، وأسهله على النفوس.
فرض صوم رمضان:
قال "ابن القيم" – رحمه الله -: وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد صام تسع رمضانات، وفرض أولاً على وجه التخيير بينه وبين أن يُطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصيام، فإنهما يفطران ويُطعمان عن كل يوم مسكيناً.
من هديه – صلى الله عليه وسلم – في شهر رمضان:
وقال – أيضاً-: وكان من هديه – صلى الله عليه وسلم – في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل -عليه السلام- يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن, والصلاة، والذكر والاعتكاف.
وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة، وكان ينهى أصحابه عن الوصال، فيقولون له: إنك تواصل، فيقول: "لست كهيئتكم إني أبيت" – وفي رواية: إني أظَلَّ – عند ربي يطعمني ويسقيني"4, وأيضاً: فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما نهاهم عن الوصال فأبوا أن ينتهوا واصل بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم"5 كالمنكِّل لهم حين أبوا أن ينتهوا عن الوصال.. وفي لفظ آخر: "لو مُد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم إني لست مثلكم" أو قال: "إنكم لستم مثلي، فإني أظَلُّ يطعني ربي ويسقيني"6, وقد نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الوصال رحمة للأمة، وأذن فيه إلى السَحَر.
وقال رحمه الله: وكان من هديه – صلى الله عليه وسلم – أن لا يَدْخُل في صوم رمضان إلا برؤية محققة، أو بشهادة شاهد واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام مرة بشهادة أعرابي، واعتمد على خبرهما، ولم يكلفهما لفظ الشهادة. فإن كان ذلك إخباراً فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة، فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة.
فإن لم تكن رؤية ولا شهادة، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.
وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً، ثم صامه. ولم يكن يصوم يوم الإغمام، ولا أمر به، بل أمر بأن تكمَّل عدة شعبان ثلاثين إذا غُمَّ، وكان يفعل كذلك، فهذا فعله، وهذا أمره، ولا يناقض هذا قوله:"فإن غم عليكم فاقدروا له"7, فإن القدر: هو الحساب المقدر، والمراد به الإكمال، كما قال: "فأكملوا العدة" والمراد بالإكمال، إكمال عدة الشهر الذي غم، وقال – صلى الله عليه وسلم -: "الشهر ثلاثون، والشهر تسعة وعشرون، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين"8.
وكان من هديه – صلى الله عليه وسلم -، أمرُ الناس بالصوم بشهادة الرجل الواحد المسلم، وخروجهم منه بشهادة اثنين.. وكان من هديه إذا شهد الشاهدان برؤية الهلال بعد خروج وقت العيد، أن يفطر، ويأمرهم بالفطر، ويصلي العيد من الغد في وقتها..
وكان – صلى الله عليه وسلم – يحض على الفطر بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة، أدعى إلى قبوله.
وكان – صلى الله عليه وسلم – يفطر قبل أن يصلي، وكان فطره على رطبات إن وجدها، فإن لم يجدها، فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى حسوات من ماء.
ويذكر عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقول عند فطره: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، فتقبل منّا إنك أنت السميع العليم وهو ضعيف9.. وروي عنه أنه كان يقول إذا أفطر: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله"10.
ويذكر عنه – صلى الله عليه وسلم -: "إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد"11.
وأما فيما يخص بتحديد وقت الإفطار فقد قال "ابن القيم"- رحمه الله -: وصح عنه أنه قال: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم"12, وفُسِّر بأنه قد أفطر حكماً، وإن لم ينوه، وبأنه قد دخل وقت فطره، كأصبح وأمسى.
ولقد نهى – صلى الله عليه وسلم – الصائم عن الرفث، والصخب والسباب، وجواب السباب فأمره أن يقول لمن سابه: إني صائم، فقيل: يقوله بلسانه وهو أظهر، وقيل: بقلبه تذكيراً لنفسه بالصوم، وقيل يقوله في الفرض بلسانه، وفي التطوع في نفسه، لأنه أبعد عن الرياء.
وسافر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في رمضان، فصام وأفطر، وخيَّر الصحابة بين الأمرين، وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقوّوا على قتاله.. فتنبيه الشارع وحكمته، يقتضي أن الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العلة، ونبَّه عليها، وصرح بحكمها، وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها، ويدل عليه، ما رواه عيسى بن يونس عن شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عمرو يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه يوم فتح مكة: "إنه يوم قتال فأفطروا"13. فعلل بالقتال ورتب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء، وكل أحد يفهم من هذا اللفظ أن الفطر لأجل القتال. وأما إذا تجرد السفر عن الجهاد فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في الفطر: "هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه"14.
وسافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان في أعظم الغزوات وأجلِّها في غزاة بدر، وفي غزاة الفتح. قال عمر بن الخطاب: غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم – في رمضان غزوتين: يوم بدر والفتح، فأفطرنا فيهما. ولم يكن من هديه – صلى الله عليه وسلم – تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد، ولا صح عنه في ذلك شيء.. وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال، وقال لمن صام: قد رغبوا عن هدي محمد – صلى الله عليه وسلم -.
وكان الصحابة ينشئون السفر، فيفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه – صلى الله عليه وسلم -. كما قال عبيد بن جبر: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسُفرة.. قال: اقترب. قلت: ألستَ ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟15.
وكان من هديه – صلى الله عليه وسلم – أن يدركه الفجر وهو جنب من أهله، فيغتسل بعد الفجر ويصوم.. وكان يُقبِّل بعض أزواجه وهو صائم في رمضان.. وشبَّه قُبلة الصائم بالمضمضة بالماء.
وكان من هديه – صلى الله عليه وسلم – إسقاط القضاء عمن أكل أوشرب ناسياً، وأن الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه16, فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه، فيفطر به، فإنما يفطر بما فعله، وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه، إذ لا تكليف بفعل النائم ولا بفعل الناسي..
قال أي ابن القيم": والذي صح عنه – صلى الله عليه وسلم -: "أن الذي يُفطر به الصائم، الأكل والشرب، والحجامة والقيء، والقرآن دال على أن الجماع مفطر كالأكل والشرب، لا يعرف فيه خلاف ولا يصح عنه في الكحل شيء..
وصح عنه أنه كان يستاك وهو صائم.. وذكر الإمام أحمد عنه، أنه كان يصب الماء على رأسه وهو صائم.. وكان يتمضمض ويستنشق وهو صائم، ومنع الصائم من المبالغة في الاستنشاق. ولا يصح أنه احتجم وهو صائم..
وقال إسحاق: قد ثبت هذا من خمسة أوجه عن النبي – صلى الله عليه وسلم -.. والمقصود، أنه لم يصح عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه احتجم وهو صائم، ولا صح عنه أنه نهى الصائم عن السواك أول النهار ولا آخره، بل قد روي عنه خلافه.
وروي عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه اكتحل وهو صائم، وروي عنه أنه خرج عليهم في رمضان وعيناه مملوءتان من الإثمد، ولا يصح، وروي عنه أنه قال في الإثمد: "ليتقه الصائم"17 ولا يصح18 .
فهذا شيء من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشهر الكريم، نسأل الله العون على التأسي به، والاقتداء بسنته، صلى الله عليه وسلم..
والحمد لله رب العالمين,,,
1 – زاد المعاد
2– أخرجه البخاري ومسلم.
3– إشارة إلى الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فيلتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء.
4– رواه البخاري ومسلم.
5– رواه البخاري ومسلم.
6 – صحيح مسلم.
7 – رواه البخاري ومسلم.
8– رواه مسلم.
9– الحديث رواه أبو داود وهو ضعيف، انظر ضعيف أبي داود للألباني رقم 510 .
10– رواه أبو داود وهو حديث حسن، انظر صحيح أبي داود للألباني رقم 2066.
11– رواه ابن ماجه وهو حديث ضعيف، انظر ضعيف ابن ماجه للألباني رقم 387. لكن قد صح حديث: ثلاثة لا ترد دعوتهم.. وذكر منهم الصائم حتى يفطر
12– رواه البخاري ومسلم.
13 – رجاله ثقات كما قال محقق زاد المعاد.
14– رواه مسلم والنسائي.
15– رواه أبو داود وأحمد والدارمي وهو حديث صحيح، انظر صحيح أبي داود للألباني رقم 2109.
16– ثبت هذا عنه في البخاري ومسلم.
17 – رواه أبو داود، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود رقم 514.وقال في إرواء الغليل منكر رقم 936.
18– انظر زاد المعاد 2/53.