السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فضلُ أمهاتِ المؤمنين:
أمهات المؤمنين: كنية كرَّم بها القرآن الكريم أزواج النبي صلَّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وكان الهدف من إطلاق هذه الكنية على أزواج النبي تقرير حرمة الزواج بهن بعد مفارقته صلَّى الله عليه وسلم وهو الحكم الوارد في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53].
وكان اعتبار زوجات النبي صلَّى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين بمثابة وسامٍ وُضِعَ على صدورهنَّ تكريمًا لهن، وتقديرًا لدورهن في مسيرة الدعوة.
وضعت الشريعة نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دائرة الأمومة، بمعنى أن كل امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحمل لقب "أم المؤمنين" فيقال: أم المؤمنين خديجة وأم المؤمنين أم سلمة وأم المؤمنين حفصة وأم المؤمنين صفية وأم المؤمنين مارية… الخ، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.
قال صاحب الميزان: معنى قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} جعل تشريعي؛ أي: أنهن منهم بمنزلة أمهاتهم في وجوب تعظيمهن وحرمة نكاحهن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتنزيل إنما هو في بعض آثار الأمومة، لا في جميع الآثار؛ كالتوارث بينهن وبين المؤمنين والنظر في وجوههن كالأمهات وحرمة بناتهن على المؤمنين لصيرورتهن أخوات لهم، وكصيرورة آبائهن وأمهاتهن أجدادًا وجدات، وإخوتهن وأخواتهن أخوالا وخالات للمؤمنين.
وقال ابن كثير في تفسير الآية: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام. ولكن لا تجوز الخلوة بهن. ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وإخواتهن بالإجماع.
لقد ادعى بعض المُغرضين أن رسول الإسلام صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يَقنع بما شرعه لأمته من زواج أربع نسوة، حتى تعدى إلى أكثر من عشرة نسوة، وقالوا: إنَّ تعدد الزوجات لا يخلو من الانقياد لداعي الشهوة، ونحن هنا سنلقي بعض الضوء على تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحكمة التي من ورائه، كما نقدم نبذة من تراجم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ونرجو من وراء ذلك أن يرى الباحث المتعمق المنصف أن الزواج لم يكن لداعي الشهوة، وإنما كان جزءًا لا يتجزأ من حركة الدعوة وهي تقيم حجتها على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأسأل الله تعالى السداد والرشاد فإنه خير معين وهاد.
حكمة تشريع الزواج من أربع نساء:
من السنن الجارية في غالب الأمم القديمة اتخاذ الزوجات المتعددة، فهذا التعدد كان سنة جارية في الهند والصين والفرس ومصر، وكان الروم واليونان ربما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يصاحبونها، ومما لا شك فيه أن بعض الأمم كاليهود والعرب كان الرجل منهم ربما تزوج العشرة والعشرين وأزْيَد، ولقد ذكرت التوراة الحاضرة أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء من قبائل وشعوب كثيرة، موآبية وعمونية وأدومية وصيدونية وحيثية ومصرية إلى غير ذلك.
ولقد جرت سنة اتخاذ الزوجات في الأمم القديمة لحاجة رب البيت إلى الجمع وكثرة الأعضاء، وكان يقصد بهذه الرغبة في التكاثر، وأن يهون له أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشته، وليكون ذلك وسيلة يتوسل بها إلى الترؤس والسؤدد في قومه، فبقدر التكاثر في البنين والتكاثر في الأقرباء بالمصاهرة يكون القرب بين بسط اليد والترؤس والسؤدد.
وعندما بُعِثَ النبُي الخاتم صلَّى الله عليه وآله وسلم، وجاء بالدين الفطري قام الإسلام بتنظيم جميع نواحي الحياة الإنسانية، ولما كان المجتمع العائلي ــ الذي هو نفس الحياة الزوجية ــ قاعدة للمجتمع، فإن الإسلام نظر إلى علاقة الرجل بالمرأة ووضع أمر الازدواج موضعه الطبيعي، فأحل النكاح وحرم الزنا والسفاح.
وأقام الإسلام نظامًا للتربية يقوم على الرأفة والرحمة والعفة والحياء والتواضع، وبالجملة: نظم الإسلام الحياة من القاعدة إلى جميع نواحي الحياة الإنسانية، وجعل جميع الحياة ذات أدب، وبسط الإسلام على معارفه رداء التوحيد؛ لأن التوحيد هو العامل الوحيد الذي يحرس الأخلاق الفاضلة، ويحفظها في ثباتها ودوامها، وما تهددت الإنسانية بالسقوط والانهدام إلا بابتعادها عن التربية الحقة.
ولما كان تعدد الزوجات سنة جارية على امتداد المسيرة البشرية، فإن الإسلام شرع التعدد وجعل له ضوابط وشروط، والإسلام لم يشرع تعدد الزوجات على نحو الإيجاب والفرض على كل رجل، وإنما نظر في طبيعة الأفراد وما يعرض لهم من العوارض الحادثة، فالتعدد له أسبابه وتشريعه حفظًا لمصلحة المجتمع الإنساني.
ولقد اعتنى الدين في تهذيبه للأخلاق أن لا تختزن الشهوة في الرجل أو المرأة؛ لأن ذلك يدعو إلى التعدي إلى الفجور والفحشاء، فوضع الإسلام الضوابط التي معها يرتفع هذا الحرمان ومنها الصوم أو الزواج، ونظرًا لأن المرأة الواحدة ربما تعذَّرت فيما يقرب من ثلث أوقات المعاشرة والمصاحبة، كأيام العادة وبعض أيام الحمل والوضع والرضاع ونحو ذلك، رفع الإسلام الحاجة الغريزية بالتعدد وفقا لشروطه، ولم يقصد من وراء التعدد رفع الحاجة الغريزية فحسب.
واعتمدت الشريعة أيضًا في مقاصدها من ناحية التعدد تكثير نسل المسلمين وعمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك والفساد، وكما ذكرنا أن التعدد لم يشرع على نحو الإيجاب والفرض على كل رجل، وإنما تقوم قاعدته على العدل، فالإسلام استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره وأحصاها، وعلى هذه الخلفية أباح التعدد حفظا لمصلحة المجتمع الإنساني، وقيد التعدد بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد.
قال صاحب تفسير الميزان: إن الإسلام شرع الازدواج بواحدة، وأنفذ التكثير إلى أربع، بشرط التمكن من القسط بينهن مع إصلاح جميع المحاذير المتوجهة إلى التعدد، وشرط الإسلام على من يريد من الرجال التعدد أن يقيم العدل في معاشرتهن بالمعروف وفي القسم والفراش، وفرض لهن نفقتهن ثم نفقة أولادهن، ولا يتيسر الإنفاق على أربع نسوة مثلا ومن يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة وغير ذلك، لا يتيسر ذلك إلا لبعض أولى الطول والسعة من الناس لا لجميعهم، أما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم، ولا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم وفروجهم، ولا مفهوم للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذته، فلا شأن للإسلام فيهم.
إن الإسلام جاء بمعارف أصلية وأخلاقية وقوانين عملية متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء، ولما أن كانت الحياة الزوجية هي قاعدة المجتمع، ولما كانت هذه الحياة ربما تتعرض لبعض العوارض، ولما كان الإسلام يقصد من وراء تكثير النسل عمارة الأرض بين مجتمع مسلم عمارة صالحة، فإن الإسلام حدد لكل داء دواؤه؛ لأن فساد بعض الأجزاء يوجب تسرب الفساد إلى الجميع، فالتعدد دواء لداء معين، ولا يكون صحيا إلا إذا قام على العدل والقسط وتدثر بدثار الأخلاق الفاضلة، والأدب، وانطلق إلى هدف الإسلام وغايته.
حكمة تعدد أزواج النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
مما سبق يرى الباحث المتدبر أن الإسلام شرع للمسلمين الازدواج بواحدة، وأنفذ التكثير إلى أربع بشرط القسط بينهن وإصلاح جميع المحاذير المتوجهة إلى التعدد، فهذا على مستوى القاعدة ويعم جميع المسلمين، والتعدد على مستوى القاعدة غير التعدد على مستوى القمة وأقصد بها النبوة؛ لأن النبي توفرت فيه جميع الشروط التي تجعله يسوق الناس إلى صراط الله الحميد، فهو أول شخص يخلص الدين لله ويسلم بما يدعو الآخرين إليه.
وعلى هذه الخلفية لا يمكن بحال أن ينطلق التعدد من داعي الشهوة أو يقود إلى داعي الشهوة كما قال بعضهم، ويضاف إلى ما ذكرنا أن الرسول مؤيد بالعصمة، مصون من الخطأ والغفلة في تلقي الوحي من الله وحفظه وتبليغه، والله تعالى يصونه من الخطأ في جميع أمور الدين وتشريع القوانين، وعلى هذه الخلفية لا يجوز لمقولة داعي الشهوة أن تُطرَح على مائدة البحث.
إن الإسلام أنفذ التكثير إلى أربع بشرط القسط بينهن، وفي هذا الباب كان للنبي صلى الله عليه وآله مختصات منعت عنها الأمة، وكان التعدد بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة من وسائل تشريع القوانين، ومن باب التعدد خرجت أحاديث عن أمهات المؤمنين تبين حركة الرسول وسكونه في بيته، ورويت الأحاديث الذي تبين قمة العدل والقسط بين النساء، وتبين حسن معاشرتهن ورعاية جانبهن. ورويت أحاديث الإخبار بالغيب وفيها حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أزواجه من الفتن، وبين لأمته الأعمال التي تحقق سعادة الدارين.
وهذه الأحاديث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث بها وهو يبكي في فراشه، أو وهو يبكي في وجود جبريل عليه السلام، وأن ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صحته وسكونه وبكائه وما شرعه للمرأة وللطفل وللأسرة، يستند أول ما يستند على تعدد الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى خلفية تعدد الرواة يمكن للباحث المنصف أن يفهم الحكمة التي وراء تعدد الزوجات في هذا الشأن.
وبالنظر في المسيرة النبوية، وفي تراجم الرجال نجد أن الكفار والمشركين والمنافقين لم يعترضوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتعدد زوجاته على الرغم من أنهم كانوا يتربصون به الدوائر، ومن المعروف أنه صلى الله عليه وآله وسلم له مختصات منعت عنها الأمة، وإن حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال وغيره من الأمور التي تختص بالنبي وعلموها وشاهدوها زمن البعثة النبوية.
والباحث في حركة الدعوة يعلم أن مسألة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ترتبط بآيات متفرقة كثيرة في القرآن الكريم، وللوقوف على الحكمة التي وراء التعدد يجب البحث في كل جهة من الجهات التي أشار إليها القرآن، وبينتها السنة المطهرة، وعلى سبيل المثال ذكر القرآن أن الله تعالى هو الذي زوَّج رسوله صلى الله عليه وآله امرأة زيد، وقد كان زيد هذا يُُدعَى ابن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم على نحو التبني، وكانت زوجة المدعو ابنا في ذلك الحين كزوجة الابن الصلبي لا يتزوج بها الأب، فكان حكم الله تعالى وطلق زيد زوجه، وتزوج بها النبي صلى الله عليه وآله ونزل فيها آيات، وكما أخبر القرآن بأن الله تعالى هو الذي زوج رسوله.
بيَّن القرآن أن الله تعالى حرم على رسوله بعد اللاتي اخترن الله ورسوله، ولا أن يطلق بعضهن ويتزوج مكانها من غيرهن.
وبالجملة: أخبر القرآن الكريم أن الله تعالى هو الذي أمر بالزواج، وإنه تعالى زوج إحداهن من رسوله، وأنه جل شأنه هو الذي حرم على الرسول الزيادة والتبديل، فما لهؤلاء لا يفقهون حديثًا، ومن الآيات القرآنية التي تدلل على ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا. تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا. لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 50 ـــ 52].
قال صاحب تفسير الميزان: أحل الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعة أصناف من النساء:
الصنف الأول: ما في قوله: {أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] والمراد بالأجور: المهور.
الثاني: ما في قوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أي: من يملكه من الإماء الراجعة إليه من الغنائم والأنفال، وذكر ابن كثير في تفسيره: إن الله أباح له التسري مما أخذ من المغانم، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما وملك مارية القبطية أم ابنه إبراهيم وكانت من السراري رضي الله عنها.
الثالث، والرابع: ما في قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} قيل: يعني نساء قريش.
الخامس، والسادس: ما في قوله: {وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} قيل: يعني نساء بني زهرة، وقوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قال في المجمع: هذا إنما كان قبل تحليل غير المهاجرات ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.
السابع: ما في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} وهي المرأة المسلمة التي بذلت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بمعنى: إن ترضى أن يتزوج بها من غير صداق ومهر، فإن الله أحلها له إن أراد أن يستنكحها، وقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} إيذانًا بأن هذا الحكم، أي حلية المرأة للرجل ببذل النفس، من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم لا يجرى في المؤمنين.
وقوله تعالى بعده: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} تقرير لحكم الاختصاص وقوله تعالى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} تعليل لقوله في صدر الآية: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} أو لما في ذيلها من حكم الاختصاص، وذكر ابن كثير قول قتادة في قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال صاحب الميزان: وقوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ} بالسياق يدل على أن المراد به أنه صلى الله عليه وآله وسلم على خيرة من قبول من وهبت نفسها له أو رده، وقال ابن كثير: إن المراد بقوله: {تُرْجِي} أي تؤخر في: {مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ}؛ أي: من الواهبات {وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ} أي من شئت قَبِلْتَهَا ومن شئت رددتها، وقوله تعالى: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} أي: ومن طلبتها من اللاتي عزلتها ولم تقبلها، فلا إثم عليك ولا لوم، أي: يجوز لك أن تضم إليك من عزلتها ورددتها من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لك بعد العزل والرد، ويمكن أن يكون إشارة إلى أن له صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم بين نسائه، وأن يترك القسم فيؤخر من يشاء منهن ويقدم من يشاء، ويعزل بعضهن من القسم، فلا يقسم لها أو يبتغيها فيقسم لها بعد العزل، وهو أفقه لقوله بعده: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ…} الآية؛ وذلك لسرور المتقدمة بما قسمت له، ورجاء المتأخرة أن تتقدم بعد.
وذكر ابن كثير في معنى الآية: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ} أي: إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم فإن شئت قسمت وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت، ثم مع هذا أن تقسم لهن اختيار منك لا أنه على سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن معروفك في ذلك، واعترفن بمنتك عليهن في قسمك لهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن.
وقال صاحب الميزان: وقوله تعالى: {لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} ظاهر الآية لو فرضت مستقلة في نفسها غير متصلة بما قبلها؛ تحريم النساء له صلى الله عليه وآله وسلم إلا من خيرهن فاخترن الله، ونفي التبدل بهن يؤيد ذلك، لكن لو فرضت متصلة بما قبلها وهو قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} الآية، كان مدلولها تحريم ما عدا المعدودات.
وفي بعض الروايات عن بعض أئمة أهل البيت إن المراد بالآية: محرمات النساء المعدودة في قوله تعالى من سورة النساء [آية 23]: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية، وقوله تعالى: {وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي: أن تطلق بعضهن، وتزوج مكانها من غيرهن، وقوله{إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} يعني: الإماء، وهو استثناء من قوله في صدر الآية {لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ}.
وذكر ابن كثير في تفسيره: {لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ}؛ أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك.وبنات العم وبنات العمات وبنات الخال وبنات الخالات والواهبة، وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك، وهذا مروي عن أبيِّ بن كعب ومجاهد، وروي عن رجل من الأنصار قال، قلت لأبي بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبي صَلَّى الله عليه وسلم توفين، أما كان له أن يتزوج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك؟ قال: قلت: قول الله تعالى: {لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} فقال: إنما أحل له ضربًا من النساء، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله تعالى: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ثم قيل له: {يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ}.
وروى ابن كثير عن أبي النضر عن أم سلمة أنها قالت: لم يمت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، وذكر ابن كثير لدى قوله تعالى: {وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} قال: نهاه عن الزيادة عليهن إن طلق واحدة منهن واستبدال غيرها بها، إلا ما ملكت يمينه.
مما سبق يعلم الباحث المتدبر، أن الأمر لله، أحل سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينكح ما شاء من أصناف النساء الوارد ذكرهن في الآية، وأحل له أن ينكح بغير مهر وهي الهبة ولا تحل الهبة إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أما غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يصلح نكاح إلا بمهر، وكان تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعدد ترى حكمته عند النظر في حركة الدعوة.
عدد زوجات النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
اختلف أهل العلم في عدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال البعض: تزوج بخمس وعشرين امرأة وخطب خمسًا وعشرين، وقال البعض: تزوج خمسًا وعشرين امرأة، وكان في ملك يمينه إحدى وعشرين امرأة، وقال البعض: تزوج بخمس عشرة امرأة وقال البعض الآخر: تزوج بثلاث عشرة امرأة غير ما كان في ملك يمينه.
روى صاحب الميزان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة امرأة منهن، وقبض عن تسع، فأما اللتان لم يدخل بهما: فعمرة، وسبا، وأما الثلاث عشرة اللاتي دخل بهن، فأولهن: خديجة بنت خويلد، ثم سودة بنت زمعة، ثم أم سلمة؛ واسمها هند بنت أبي أمية، ثم أم عبد الله عائشة بنت أبي بكر، ثم حفصة بنت عمر، ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين، ثم زينب بنت جحش، ثم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، ثم ميمونة بنت الحارث، ثم زينب بنت عميس، ثم جويرية بنت الحارث، ثم صفية بنت حيي بن أخطب، والتي وهبت نفسها للنبي خولة بنت حكيم السلمي، وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه: مارية القبطية، وريحانة الخندقية.
والتسع اللاتي قبض عنهن: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث، وأم حبيب بنت أبي سفيان، وجويرية، وسودة، وصفية، وأفضلهن: خديجة بنت خويلد. ثم أم سلمة ثم ميمونة.
وقال أبو عمر في الاستيعاب: اللواتي لم يختلف أهل العلم فيهن، هن إحدى عشر امرأة تزوجها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؛ ست من قريش، وواحدة من بني إسرائيل من ولد هارون عليه السلام، وأربع من سائر العرب، وتوفي في حياته صَلَّى الله عليه وسلم من أزواجه اثنتان: خديجة بنت خويلد، وزينب بنت خزيمة، وتخلف منهن تسع بعده.
وأما اللواتي اختُلِف فيهن ممن ابتنى بها أو فارقها أو عقد عليها ولم يدخل بها أو خطبها ولم يتم له العقد معها، فقد اختُلِف فيهن، وفي أسباب فراقهن اختلافًا كثيرًا يوجب التوقف عن القطع بالصحة في واحدة منهن، وعن ابن هشام في السيرة: لم يختلف أهل العلم على أنه صَلَّى الله عليه وسلم، تزوج ستًّا من قريش هن: خديجة بنت خويلد، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وعائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وإنه تزوج من العربيات وغيرهن أربع هن: زينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة، وجويرية بنت الحارث، وتزوج من بني إسرائيل واحدة هي: صفية بنت حيي من ولد هارون عليه السلام، وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه هما: مارية القبطية، وريحانة.
وبقراءة السيرة وبالنظر في الدعوة في زمن البعثة، يقف الباحث على أن زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحكمه البلاغ، والإنذار، والدعوة إلى الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ببعض هؤلاء الأزواج؛ اكتسابًا للقوة وازديادًا للعضد والعشيرة، وببعض هؤلاء؛ استمالةً للقلوب وتوقيًا من بعض الشرور، وببعض هؤلاء؛ ليقوم على أمرها بالإنفاق وإدارة المعاش، وليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل والعجائز من المسكنة والضيعة، وببعضها؛ لتثبيت حكم مشروع وإجراء عملي لكسر السنن المنحطة والبدع الباطلة الجارية بين الناس، كما في تزوجه بزينب بنت جحش.
وبالنظر في زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنساء، نجد أنه تزوج أول ما تزوج بخديجة رضي الله عنها، وعاش معها مقتصرًا عليها نيفا وعشرين سنة، وبعد وفاتها تزوج بسودة بنت زمعة وقد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة، وكانت سودة مؤمنة مهاجرة، ولو رجعت إلى أهلها وهم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين والمؤمنات بالزجر والقتل والإكراه على الكفر، وتزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبيدة بن الحارث يوم بدر شهيدًا، وكانت من السيدات الفاضلات في الجاهلية تدعى أم المساكين لكثرة برها للفقراء والمساكين، فصان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزواجها ماء وجهها، وتزوج بأم سلمة؛ واسمها هند، وكانت من قبل زوجة عبد الله بن عبد الأسد أبي سلمة؛ أول من هاجر إلى الحبشة، توفي من أثر جرح أصابه يوم أحد، وكانت أم سلمة زاهدة فاضلة ذات دين ورأي، فلما توفي عنها زوجها وكانت ذات أيتام تزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وتزوج بجويرية، واسمها برة بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق، فتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها، فقال المسلمون: هؤلاء أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أسرهم وأعتقوهم جميعا، فأسلم بنو المصطلق بذلك ولحقوا عن آخرهم بالمسلمين وكانوا جمعًا غفيرًا، وأثر ذلك أثرا حسنا في سائر العرب، وكان هذا العمل من الأسباب الرئيسة لتصدع جبهة المشركين، وفتح الطريق أمام الدعوة بعد ذلك وأرسلت الرسائل إلى القادة والملوك، وتزوج بصفية بنت حيي بن أخطب من نسل هارون عليه السلام، وكانت في سبي خيبر، فاصطفاها وأعتقها وتزوج بها، وأقيمت بهذا الزواج حجة دامغة على اليهود كما سيأتي، وتزوج أم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان، وكانت زوجة عبيد الله بن جحش، وهاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصَّر عبيد الله هناك، وثبتت هي على الإسلام، وكان أبوها أبو سفيان في مكة يجمع الجموع على الإسلام يومئذ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحصنها، وتزوج بحفصة بنت عمر، وقد مات زوجها بعد الهجرة مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بدر، وتزوج عائشة بنت أبي بكر وهى بِكْر، لقد قالوا: إن تعدد الزوجات لا يخلو من الانقياد لداعي الشهوة، فأين هذا الانقياد وهذا الداعي؟
لقد تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما تزوج بخديجة وعاش معها مقتصرا عليها نيفا وعشرين سنة وهذه المدة هي ثلثا عمره الشريف بعد الزواج، ومن هذه المدة ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة، ثم هاجر إلى المدينة وشرع في نشر الدعوة وإعلاء كلمة الدين.
وتزوج بعدها من النساء منهن البكر ومنهن الثيب ومنهن الشابة ومنهن العجوز والمكتهلة، وكان ذلك ما يقرب من عشر سنين، ثم حُرِّم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه، ومن المعلوم أن هذه الفعال على هذه الخصوصيات، لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء والولوع بهن، والوله بالقرب منهن.
فأول هذه السيرة وآخرها يناقضان ذلك؛ ووفقا لما نشاهده من العادة الجارية بين الناس. إن الرجل المتولع بالنساء المغرم بحبهن والخلاء بهن والصبوة إليهن؛ هذا الرجل تراه مجذوبا إلى الزينة عشيقا للجمال، حنينا إلى الشباب ونضارة السن وطراوة الخلقة، فإذا نظرنا إلى هذه الخواص التي تتوفر في الرجل المتولع بالنساء نجد أنها لا تنطبق على سيرة النبي الأعظم صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه بني بالثيب بعد البكر، وبالعجوز بعد الفتاة الشابة؛ فقد بنى بسودة بنت زمعة وهي مسنة. وبنى بزينب بنت جحش وسنها يومئذ يقرب على الخمسين بعدما تزوج بمثل عائشة وأم حبيبة. وهكذا.
فإذا أضفنا إلى هذا أنه صلى الله عليه وآله وسلم خير نساءه بين التمتيع والسراح الجميل وهو الطلاق إن كُنَّ يردن الدنيا وزينتها، وبين الزهد في الدنيا وترك التزين والتجمل إن كن يردن الله ورسوله والدار الآخرة؛ على ما يشهد به قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا. وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29].
فهذا المعنى أيضا أمام الباحث المتدبر لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صابٍ إلى وصالهن، فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق ــ إذا أنصف ــ إلا أن يوجه كثرة ازدواجه صلى الله عليه وآله وسلم، فيما بين أول أمره وآخر أمره، بعوامل أخرى غير عامل الانقياد لداعي الشهوة حيث الشره والشبق والتلهي.
في ظلال الأوامر الإلهية لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سار النبي بالدعوة في طريق الزهد وترك الزينة وندب نساءه إلى ذلك؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا. وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا. يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا. يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 28 ـــ 33].
قال صاحب تفسير الميزان: آيات راجعة إلى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأمره أولًا: أن ينبئهن أن ليس لهن من الدنيا وزينتها إلا العفاف والكفاف إن اخترن زوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تخاطبهن ثانيًا: أنهن واقفات في موقف صعب على ما فيه من العلو والشرف، فإن اتقين الله يؤتين أجرهن مرتين، وإن أتين بفاحشة مبينة يضاعف لهن العذاب ضعفين، ويأمرهن بالعفة ولزوم بيوتهن من غير تبرج، والصلاة والزكاة وذكر ما يتلى في بيوتهن من الآيات والحكمة.
ونتبين من الآيات أن ليس لزوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث هي زوجية كرامة عند الله تعالى، وإنما الكرامة المقارنة لزوجيته المقارنة للإحسان والتقوى، ولذلك لما ذكر سبحانه ثانيا: علو منزلتهن، قيده أيضا بالتقوى فقال تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} وهذا كقوله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}، إلى أن قال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]؛ حيث مدحهم عامة بظاهر أعمالهم أولًا، ثم قيد وعدهم الأجر العظيم بالإيمان والعمل الصالح.
وإتماما للفائدة وإكمالا للغرض، نقدم بعضا من سير أمهات المؤمنين.
أولًا: السيدة خديجة بنت خويلد:
هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، وأمها فاطمة بنت زائدة بن جندب، وكانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو، وذكر الطبراني أنها ولدت لعتيق: هند بن عتيق، ثم خلف عليها أبو هالة مالك بن بناش فولدت له: هندًا وهالة؛ فهند بن عتيق بن عابد، وهند وهالة ابنا أبي هالة مالك بن بناش هم أخوة ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خديجة بنت خويلد؛ من أمهم.
وروي عن ابن عباس أن نساء أهل مكة احتفلن في عيد كان لهن في رجب، فلم يتركن شيئا من إكبار ذلك العيد إلا أتينه، فبينما هن في عيدهن تمثل لهن رجل، فلما صار منهن قريبا نادى بأعلى صوته: يا نساء مكة إنه سيكون في بلدكن نبيٌّ يقال له: أحمد، يُبعث برسالة الله، فأيما امرأة أستطاعت أن تكون له زوجا فلتفعل، فحصبته النساء وقبَّحنه وأغلظن له، وأغضت خديجة على قوله ولم تعرض له فيما عرض فيه النساء، وروي عن نفيسة بنت أمية أنها قالت: كانت خديجة ذات شرف ومال كثير، وتجارة تبعث إلى الشام فيكون عيرها كعامة عير الشام، وكانت تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربة، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وعشرين سنة. وليس له اسم بمكة إلا الأمين، أرسلت إليه خديجة بنت خويلد تسأله الخروج إلى الشام في تجارتها مع غلامها ميسرة وقالت: أنا أعطيك ضعف ما أعطي قومك. ففعل رسول الله صلى الله عليه وآله، وخرج إلى سوق بصرى فباع سلعته التي أخرج، واشترى غيرها، وقدم بها فربحت ضعف ما كانت تربح، فأضعفت لرسول الله صلى الله عليه وآله ضعف ما سمت له، ثم أرسلتني إليه أعرض عليه نكاحها ففعل.
وروى صاحب الإصابة أن سبب رغبتها فيه صلى الله عليه وآله وسلم ما حكاه لها غلامها ميسرة مما شاهد من علامات النبوة ومما سمعه من بحيرا الراهب في حقه.
وقال صاحب الاستيعاب: وكانت خديجة إذ تزوجها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة. وكان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ابن خمس وعشرين سنة. وقال أبو عمر: وأجمع أهل العلم أن خديجة ولدت لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أربع بنات هن: زينب، وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم، وأجمعوا أنها ولدت له ابنا يسمى: القاسم؛ وبه كان يكنى صَلَّى الله عليه وسلم، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم، وزعم بعضهم أنها ولدت له ولدا يسمى الطاهر، وقال بعضهم: ما نعلمها ولدت له إلا القاسم وولدت له بناته الأربع، وقيل: وُلد لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: القاسم وبه يكنى وعبد الله وهو الطيب والطاهر وولدت له بناته الأربع.
ولا يختلف أهل العلم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتزوج قبل البعثة غير خديجة، ولا تزوج عليها أخرى من نسائه حتى ماتت.
إسلام خديجة:
قال ابن إسحاق: كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدق محمدا صَلَّى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه وآزره على أمره، فكان لا يسمع من المشركين شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له إلا فرج الله عنه بها؛ تثبته وتصدقه وتخفف عنه، وتهون عليه ما يلقى من قومه.
وروي عن أبي رافع قال: أول من أسلم من الرجال علي بن أبي طالب، وأول من أسلم من النساء خديجة.
وأخرج أحمد وابن سعد عن عفيف الكندي قال: جئت في الجاهلية إلى مكة، وأنا أريد أن أبتاع لأهلي من ثيابها وعطرها، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، قال: فأنا عنده، وأنا أنظر إلى الكعبة وقد حلقت الشمس فارتفعت، إذ أقبل شاب حتى دنا من الكعبة، فرفع رأسه إلى السماء فنظر، ثم استقبل الكعبة قائما مستقبلها، إذ جاء غلام حتى قام عن يمينه، ثم لم يلبث إلا يسيرًا حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، ثم ركع الشاب فركع الغلام وركعت المرأة، ثم رفع الشاب رأسه ورفع الغلام رأسه ورفعت المرأة رأسها، ثم خرَّ الشاب ساجدا وخرَّ الغلام ساجدا وخرَّت المرأة. قال: فقلت: يا عباس إني أرى أمرا عظيما. فقال العباس: أمر عظيم، هل تدري من هذا الشاب؟ قلت: ما أدري قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي. هل تدري من هذا الغلام؟ قلت: لا. ما أدري. قال: هذا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن أخي، قال: هل تدري من هذه المرأة؟ قلت: لا. ما أدري. قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي هذا. إن ابن أخي هذا الذي ترى حدثنا أن ربه رب السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، فهو عليه. ولا والله ما علمت على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. قال عفيف: فتمنيت بعد أني كنت رابعهم.
روي عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده. قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين وصلت خديجة آخر يوم الاثنين. وروي عن ابن عباس قال: أول من صلى مع النبي بعد خديجة علي بن أبي طالب. وعن أنس قال: بعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم يوم الاثنين وصلى علي بن أبي طالب يوم الثلاثاء.
مناقبها:
عن ابن عباس قال: خط رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط. فقال: "أتدرون ما هذا؟" فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة ابنة محمد صَلَّى الله عليه وسلم، ومريم ابنة عمران، وآسية ابنة مزاحم امرأة فرعون". وروى الترمذي عن أنس قال: قال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون." وقال صاحب التاج الجامع للأصول: أي يكفيك من فاضلات النساء كلهن هؤلاء الأربع؛ وفضل خديجة؛ لصبرها الجميل وجليل ما صنعته من أعمال صالحة وآثار نافعة قيمة، وفضل فاطمة؛ لأنها بضعة من محمد صَلَّى الله عليه وسلم.
أخرج ابن السني بسند له عن خديجة: إنها خرجت تلتمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأعلى مكة. ومعها غداوته، فلقيها جبريل في صورة رجل، فسألها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهابته وخشيت أن يكون بعض من يريد أن يقتله. فلما ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: "هو جبريل، وقد أمرني أن أقرأ عليك السلام"، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، وروي عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربها عز وجل ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وعن ابن أبي أوفى: أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "قال لي جبريل صَلَّى الله عليه وسلم: بشِّرْ خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب."
قال صاحب التاج الجامع للأصول: القصب: اللؤلؤ المجوَّف المنظوم بالدر والياقوت، والصخب: الصياح، والنصَب: الهمُّ والتعب، وفي رواية: عندما بلغها النبي صَلَّى الله عليه وسلم السلام من ربها جل وعلا ومن جبريل قالت: هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته، فهذه منقبة لم ترد لأحد من بنات آدم عليه السلام، فما أعظمها مفخرة للدنيا والآخرة.
وفاتها رضي الله عنها:
قال أبو عمر: قيل: توفيت قبل الهجرة بخمس سنين. وقيل: بأربع سنين. وقال قتادة: توفيت خديجة قبل الهجرة بثلاث سنين. قال ابن إسحاق: كانت وفاة خديجة وأبي طالب في عام واحد. وكانت يوم توفيت بنت خمس وستين سنة. ودفنت في الحجون. ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حفرتها. ولم تكن شرعت الصلاة على الجنائز.
ثانيًا: السيدة سودة بنت زمعة:
هي: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حل بن عامر بن لؤي، وأمها الشموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، قال أبو عمر: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة بعد موت خديجة وقبل العقد على عائشة.
ولا خلاف أنه لم يتزوجها إلا بعد موت خديجة، وكانت قبل ذلك تحت ابن عم لها يقال له: السكران بن عمرو من بني عامر بن لؤي. وقال ابن سعد: أسلم زوجها السكران بن عمرو، وخرجا جميعا مهاجرَيْن إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، وقدم السكران بن عمرو مكة من أرض الحبشة ومعه امرأته سودة بنت زمعة، فتوفي عنها بمكة، فلما حلت أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخطبها، فقالت: أمري إليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مري رجلًا من قومك يزوجك"، فأمرت حاطب بن عمرو، فزوجها فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد خديجة.
وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قالا: جاءت خولة بنت حكيم السلمية امرأة عثمان بن مظعون إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة، فقال: "أجل، كانت أم العيال وربة البيت"، قالت: أفلا أخطب عليك؟ قال: "بلى؛ فإنكن معشر النساء أرفق بذلك"، فخطبت عليه سودة بنت زمعة.
مناقبها:
روى أبو عمر في الاستيعاب: أن سودة بنت زمعة قالت للنبي صَلَّى الله عليه وسلم: أودُّ أن أحشر في زمرة أزواجك. وإني قد وهبت يومي لعائشة. وإني لا أريد ما تريد النساء.
وروى صالح مولى التوأمة قال: سمعت أبا هريرة يقول: حج رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بنسائه عام حجة الوداع ثم قال: "هذه الحجة ثم ظهور الحصر"؛ قال أبو هريرة: وكان كل نساء النبي صَلَّى الله عليه وسلم، يحججن إلا سودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، قالتا: لا تحركنا دابة بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. وفي رواية: كانت سودة تقول: لا أحج بعدها أبدًا. وروي عن ابن سيرين: قالت سودة: حججت واعتمرت فأنا أقر في بيتي كما أمرني الله عز وجل
روي عن محمد بن عمر بن الخطاب: بعث إلى سودة بنت زمعة بغرارة من دراهم. فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم. قالت: في الغرارة مثل التمر. يا جارية بلغيني القنع: قال: ففرقتها.
وفاتها:
وقال أبو عمر: توفيت سودة بنت زمعة في آخر زمان عمر بن الخطاب. وقيل: توفيت سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية.
ثالثًا: السيدة عائشة بنت أبي بكر:
هي عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وأمها: أم رومان بنت عمير بن عامر.
قال أبو عمر: كانت عائشة تُذكر لجبير بن مطعم وتُسمى له. وروى ابن سعد عن أبي مليكة أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عندما خطب عائشة قال أبو بكر: إني كنت أعطيتها مطعما لابنه جبير، فدعني حتى أسلها منهم، فاستسلها منهم فطلقها، فتزوجها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. وفي وراية: إن أبا بكر استسلَّها منهم قبل أن تخطبها خولة بنت حكيم السلمية امرأة عثمان بن مظعون لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله تزوج عائشة بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل: بثلاث سنين، وابتنى بها بالمدينة، وفي رواية: تزوجها النبي صلى الله عليه وآله في السنة الثانية أو الثالثة للهجرة وتوفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، وروي عن عباد بن حمزة عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله إن النساء قد اكتنين فكنني، قال: "تكني بابنك عبد الله بن الزبير"، يعنى ابن أختها.
أخرج ابن سعد عن عروة عن عائشة أنها قالت: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا عائشة إن أردت اللحوق بي فليكفيك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلفي ثوبا حتى ترقعيه". وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأزواجه: "أيتكن صاحبة الجمل الأدبب يقتل حولها قتلى كثير، وتنجو بعد ما كادت" قال أبو عمر في هذا الحديث: وهذا الحديث من أعلام نبوته صَلَّى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن ما أخبر به النبي صَلَّى الله عليه وسلم تحقق على عهد الإمام علي بن أبي طالب، وروى الإمام أحمد عن قيس قال: لما أقبلت عائشة وبلغت مياه بني عامر ليلًا نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب. قالت: ما أظنني إلا أني راجعة، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم. قالت: إن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لها ذات يوم: "كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب".
قطوف من سيرتها رضي الله عنها:
قالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزا، فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب، ثم قال: "لا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا؛ إذ حرمني أولاد النساء". قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبدًا.
وعن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة وتذكره، فارتاع لذلك، فقال: "اللهم هالة بنت خويلد"، فغِرْتُ، فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرًا منها، فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قالت له: لا أذكرها بعد هذا إلا بخير.
وأخرج ابن سعد عن القاسم قال: كانت عائشة استقلت بالفتوى في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان.
ومما أرسله أصحاب الحديث وأصحاب التواريخ والسير إرسال المسلمات، أن عائشة شاركت في الحرب وقادت المعارك والرجال، وكانت تبعث بالرسائل لرؤساء القبائل.
وكانت رضي الله عنها تتصدق على الفقراء والمساكين حتى توفاها الله. وكانت تظهر النعمة وتتحدث بها، فعن ذكوان مولى عائشة قال: قدم درج من العراق فيه جواهر إلى عمر بن الخطاب، فقال لأصحابه: أتدرون ما ثمنه. فقالوا: لا. ولم يدروا كيف يقسمونه. فقال: أتأذنون أن أرسل به إلى عائشة؛ لِحُبِّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إياها. قالوا: نعم. فبعث به إليها.
وأخرج ابن سعد عن مصعب بن سعد قال: فرض عمر لأمهات المؤمنين عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين. وقال: إنها حبيبة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وفي عهد معاوية بن أبي سفيان تعهد معاوية أم المؤمنين بالعطايا، وروي عن عروة أن معاوية بعث إلى عائشة بمائة ألف.
وفاتها:
روى قيس بن أبي حازم عن عائشة أنها قالت: إني أحدثت بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حدثا، أدفنوني مع أزواجه. وعن عيسى بن دينار قال: سألت أبا جعفر عن عائشة فقال: استغفر لها. أما علمت ما كانت تقول: يا ليتني كنت شجرة. يا ليتني كنت حجرا. يا ليتني كنت مدرة. قال: قلت: وما ذاك منها؟ قال: توبة. وعن عمارة بن عمير قال: كانت عائشة إذا قرأت هذه الآية: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] بكت حتى تبل خمارها.
قال أبو عمر: وتوفيت عائشة سنة سبع وخمسين. وقيل: سنة ثمان وخمسين. ودفنت من ليلتها بعد الوتر بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة.
رابعًا: السيدة حفصة بنت عمر:
هي حفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عدي بن كعب بن لؤي، وأمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب، وُلدت حفصة وقريش تبني البيت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنين.
أخرج ابن سعد عن أبي الحويرث قال: تزوج خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي حفصة بنت عمر بن الخطاب. فكانت عنده وهاجرت معه إلى المدينة، فمات عنها بعد الهجرة مقدم النبي صَلَّى الله عليه وسلم من بعد.
وروي عن حسين بن أبي حسين قال: تزوج رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حفصة في شعبان على رأس ثلاثين شهرا قبل أحد، وقال أبو عمر: تزوجها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في سنة ثلاث من الهجرة.
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب: ان النبي صَلَّى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها.
وفاتها رضي الله عنها:
قال أبو عمر: أوصى عمر بن الخطاب بعد موته إلى حفصة، وأوصت حفصة إلى عبد الله بن عمر بما أوصى به عمر وبصدقة تصدقت بها وبمال وقفته بالغاية. وتوفيت سنة إحدى وأربعين. وقال أبو معشر وغيره: توفيت سنة خمس وأربعين. وأخرج ابن سعد أنها توفيت سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان وهي يومئذ ابنة ستين سنة. وصلى عليها مروان بن الحكم وهو يومئذ عامل المدينة.
خامسًا: السيدة زينب بنت خزيمة:
هي زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال، وقال ابن سعد: وهي أم المساكين؛ وكانت تسمى بذلك في الجاهلية.
كانت عند الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف فطلقها، فتزوجها عبيدة بن الحارث فقتل عنها يوم بدر شهيدا.
وروي عن محمد بن قدامة عن أبيه قال: خطب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين. فجعلت أمرها إليه، فتزوجها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأشهد وأصدقها اثنى عشرة أوقية ونشا، وكان تزويجه إياها في شهر رمضان؛ على رأس إحدى وثلاثين شهرًا من الهجرة. وقيل: سنة ثلاث من الهجرة.
وفاتها رضي الله عنها:
أخرج ابن سعد عن محمد بن قدامة عند أبيه قالا: مكثت زينب عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ثمانية أشهر وتوفيت في آخر شهر ربيع الآخر على رأس تسعة وثلاثين شهرًا من الهجرة، وصلى عليها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ودفنها بالبقيع. وأخرج أبو عمر: لم تلبث زينب عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلا شهرين أو ثلاثة.
سادسًا: السيدة أم سلمة بنت أبي أمية:
هي هند بنت أبي أمية؛ واسمه سهيل زاد الراكب ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة من بني مالك بن كنانة.
كانت أم سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وهو أول من هاجر إلى أرض الحبشة، وشهد بدرا فولدت له سلمة، وعمر، وزينب ثم توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى الحاكم عن مصعب بن عبد الله قال: كانت أم سلمة هي أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة.
وعن أبي جعفر قال: إن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة حين توفي أبو سلمة، فذكر ما أعطاه الله وما قسم له وما فضله، فما زال يذكر ذلك ويتحامل على يده حتى أثر الحصير في يده مما يحدثها. وروى الحاكم وغيره: لما انقضت عدة أم سلمة خطبها أبو بكر فردته، وخطبها عمر فردته.
وروى ابن سعد عن أم سلمة قالت: لما خطبني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قلت: إن في خلالا لا ينبغي لي أن أتزوج رسول الله؛ إني امرأة مسنة، وإني أم أيتام، وإني شديدة الغيرة. قالت: فأرسل إلي رسول الله: "أما قولك: إني امرأة مسنة، فأنا أسن منك، ولا يعاب على المرأة أن تتزوج أسن منها، وأما قولك: إني أم أيتام، فإن كلهم على الله وعلى رسوله، وأما قولك: إني شديدة الغيرة، فإني أدعو الله أن يذهب ذلك عنك". قالت: فتزوجني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فانتقلني، فأدخلني بيت زينب بنت خزيمة أم المساكين بعد أن ماتت؛ فإذا جرة، فاطلعت فيها فإذا فيها شيء من شعير، وإذا رحى وبرمة وقدر، فنظرت فإذا فيها كعب من إهالة. قالت: فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة وأخذت الكعب من الإهالة فأدمته به. قالت: فكان ذلك طعام رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. وطعام أهله ليلة عرسه.
وروى الحاكم عن عمر بن أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم تزوج أم سلمة في ليال بقين من شوال سنة أربع. ثم إن أهل المدينة قالوا: دخلت أيم العرب على سيد الإسلام والمسلمين أول العشاء عروسًا، وقامت من آخر الليل تطحن.
مناقبها:
روي عن سلمان قال: أتى جبريل عليه السلام نبي الله صَلَّى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة، فجعل يتحدث ثم قام، فقال نبي الله لأم سلمة: "من هذا؟" أو كما قال. قالت: هذا دحية الكلبي. قالت: والله ما حسبته إلا إياه، حتى سمعت خطبة النبي صَلَّى الله عليه وسلم يخبر خبرنا. قال صاحب التاج الجامع للأصول: فأم سلمة رأت جبريل يتحدث مع النبي صلى اللة عليه وسلم. فلما سألها من هذا. ما فهمت إلا أنه دحية الكلبي؛ لأنه كان يأتي في صورته أحيانا. ففيه فضل أم سلمة؛ لرؤيتها لجبريل ولحضوره في مجلسها. وروي عن إياس عن أم الحسين؛ أنها كانت عند أم سلمة، فأتي مساكين فجعلوا يلحون وفيهم نساء، فقلت: أخرجوا أو أخرجن، فقالت أم سلمة: ما بهذا أمرنا يا جارية، ردي كل واحد وواحدة ولو بتمرة تضعيها في يدها.
وروى الإمام أحمد عن عطاء بن رباح أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم كان في بيت أم سلمة فأتته فاطمة، فقال: "ادعي زوجك وابنيك"، فجاء علي والحسن والحسين، فدخلوا عليه فجلسوا على دثار، وكان تحته كساء له خيبري، قالت أم سلمة: وأنا أصلى في الحجرة، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. فأخذ النبي صَلَّى الله عليه وسلم فضل الكساء فغشاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي؛ فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا" قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال لا: "إنك إلى خير إنك إلى خير".
وقال صاحب الإصابة: كانت أم سلمة موصوفة بالعقل البالغ والرأي الصائب، وإشارتها على النبي صَلَّى الله عليه وسلم يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه بعد ما كتب كتاب الصلح يوم الحديبية: "انحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم"، فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة، فاغتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشكا ذلك لأم سلمة فقالت: يا رسول الله انحر أنت واحلق، فنحر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وحلق، فنحر القوم.
وفاتها:
قال ابن حيان: ماتت سنة إحدى وستين بعد ما جاءها نعي الحسين بن علي. وقال أبو نعيم: ماتت سنة اثنتين وستين وهي آخر أمهات المؤمنين موتا، ودفنت بالبقيع رحمة الله عليها.
سابعًا: السيدة زينب بنت جحش:
هي زينب بنت جحش بن رياب بن يعمر بن حبرة بن مرة بن أسد بن خزيمة، وأمها: أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، عمة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
أخرج ابن سعد عن عمر بن عثمان عن أبيه قال: قدم النبي صَلَّى الله عليه وسلم المدينة، وكانت زينب بنت جحش ممن هاجر مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى المدينة، فخطبها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على زيد بن حارثة. فقالت: يا رسول الله لا أرضاه لنفسي وأنا أيم قريش، قال: فإني قد رضيته لك، فتزوجها زيد بن حارثة.
وروي أن زيدا كان يقال له زيد بن محمد، وكان أهل الجاهلية يعتقدون أن الذي يتبنى غيره يصير ابنه بحيث يتوارثان إلى غير ذلك، فلما نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] وقوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] الآية.
وبزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزينب بنت جحش انتفى ما كانوا يعتقدونه في الجاهلية، وعلاوة على ذلك امتحن الله تعالى المسلمين في هذه الآونة بهذا الزواج؛ فأما الذين آمنوا فقد علموا أن وراء هذا التشريع حكمة. وأما المنافقين فقالوا حرم محمد الولد وقد تزوج امرأة ابنه. إلى غير ذلك.
وقصة الزواج أشار إليها قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا. مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 36 ـــ 40].
قال صاحب الميزان: المراد بهذا الذي أنعم الله عليه، وأنعم النبي عليه، زيد بن حارثة الذي كان عبدًا للنبي صَلَّى الله عليه وسلم ثم حرره واتخذه ابنا له، وكان تحته زينب بنت جحش؛ فأتى زيد النبي فاستشاره في طلاق زينب، فنهاه النبي صَلَّى الله عليه وسلم عن الطلاق، ثم طلقها زيد، فتزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ونزلت الآيات.
مناقبها:
في الروايات: ما أولم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب؛ ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم، وفي الروايات: أنها كانت تفتخر على سائر النساء بثلاث: أن جدَّها وجدَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحد؛ فإنها كانت بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الذي زوجها منه هو الله سبحانه وتعالى، وأن السفيرَ جبريلُ عليه السلام، وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال: لما أخبرت زينب بتزويج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها سجدت.
قال المسعودي: وكان تزويجه صَلَّى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش سنة خمس من الهجرة، وروي عن أم سلمة أن زينب كان بينها وبين عائشة ما يكون، فقالت زينب: إني والله ما أنا كأحد من نساء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، إنهن زوجهن بالمهور وزوجهن الأولياء، وزوجني الله رسوله وأنزل في الكتاب يقرأ به المسلمون لا يبدل ولا يغير: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} الآية. وقالت أم سلمة: وكانت لرسول الله معجبة وكان يستكثر منها، وكانت امرأة صالحة صوامة قوامة صنعا، تتصدق بذلك كله على المساكين.
وأخرج ابن سعد عن عائشة قالت: قال النبي صَلَّى الله عليه وسلم لأزواجه: "يتبعني أطولكن يدًا"، قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد النبي صَلَّى الله عليه وسلم، نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذ أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، إنما أراد بطول اليد الصدقة، قالت: وكانت زينب امرأة صناع اليد، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله. وأخرج ابن سعد عن عمر بن عثمان عن أبيه: ما تركت زينب بنت جحش درهمًا ولا دينارًا، كانت تتصدق بكل ما قدرت عليه، وكانت مأوى المساكين، وتركت منزلها فباعوه من الوليد بن عبد الملك حين هدم المسجد بخمسين ألف درهم.
وروي عن محمد بن كعب قال: كان عطاء زينب بنت جحش اثني عشر ألفا لم تأخذه إلا عاما واحدا، فجعلت تقول: اللهم لا يدركني هذا المال من قابل؛ فإنه فتنة، ثم قسمته في أهل رحمها وفي أهل الحاجة.
وفاتها رضي الله عنها:
توفيت زينب بنت جحش في خلافة عمر بن الخطاب سنة عشرين وهي بنت خمسين، وقيل إنها عاشت ثلاثا " وخمسين.
ثامنًا: السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان:
هي رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأمها: صفية بنت أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، تزوجها عبيد الله بن جحش، فولدت له حبيبة فكنيت بها.
زواجها:
عن أم حبيبة قالت: رأيت في المنام كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه، ففزعت فقلت: تغيرت والله حاله، فإذا هو يقول حين أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر دينا خيرا من النصرانية، وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم رجعت إلى النصرانية، فقلت: والله ما خير لك، وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له، فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات، فرأيت في النوم كأن آتيا يقول لي: يا أم المؤمنين، ففزعت وأولتها أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يتزوجني، قالت: فما هو إلا أن انقضت عدتي، فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن، فإذا جارية له يقال لها "أبرهة" كانت تقوم على ثيابه ودهنه، فدخلت علي، فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجك، فقلت: بشرك الله بخير، وقالت: يقول لك الملك: وكلي من يزوجك، فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته، وأعطت أبرهة سوارين من فضة وخدمتين كانتا في رجليها وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها سرورا بما بشرتها به، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا، فخطب النجاشي، فقال: الحمد لله، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، أما بعد: فإن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوِّجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أصدقها أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فتكلم خالد بن سعيد، فقال: الحمد لله، أحمده، وأستعينه، وأستنصره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسوله، ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا، فقال: أجلسوا فإن سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا تزوجوا أن يؤكل الطعام على التزويج، فدعا بطعام، فأكلوا ثم تفرقوا، قالت أم حبيبة: فلما وصل إليَّ المال، أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني، فقلت لها: إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي، وهذه خمسون مثقالا، فخذيها، فاستعيني بها، فأخرجت إليَّ حقة فيها جميع ما أعطيتها فردته إلي، وقالت: عزم عليَّ الملك أن لا أرزأك شيئًا، وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه، وقد اتبعت دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلمت لله، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر، فلما كان الغد جاءتني بعودٍ وورسٍ وعنبرٍ كثيرٍ، وقدمت بذلك كله على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكان يراه عليَّ وعندي فلا يُنكِر، ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مني السلام، وتعلميه إني قد اتبعت دينه، قالت: ثم لطفت بي، وكانت هي التي جهزتني، وكانت كلما دخلت عليَّ تقول: لا تنسَيْ حاجتي إليك، قالت: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أخبرته كيف كانت الخطبة، وما فعلت بي أبرهة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقرأته منها السلام، فقال: "وعليها السلام ورحمة الله وبركاته"، وعن عبد الواحد بن عون قال: لما بلغ أبا سفيان بن حرب نكاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته قال: ذاك الفحل لا يقدع أنفه، وكان زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأم حبيبة سَكَنٌ لَهَا وتطييب لخاطرها، وكان فيه إغلاقا لأبواب الفتن.
وفاتها:
قال أبو عمر: توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين، وعن علي بن الحسين قال: قدمت منزلي في دار علي بن أبي طالب عليه السلام، فحفرنا في ناحية منه، فأخرجنا منه حجرًا، فإذا فيه مكتوب: هذا قبر رملة بنت صخر، فأعدناه مكانه.
تاسعًا: السيدة جويرية بنت الحارث:
هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن مالك بن جزيمة، وجزيمة هو المصطلق من خزاعة، تزوجها مسافع بن صفوان، فقُتل يوم المريسيع.
زواجها:
ذكر ابن كثير أن بني المصطلق كانوا أكبر بطون خزاعة، وكانوا حلفاء لأبي سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا ذوو تأثير كبير على من حولهم من القبائل. روى الطبري: بلغ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجتمعون له، وقائدهم الحارث بن ضرار أبو جويرية بنت الحارث، فلما سمع بهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقول له: المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا قتالًا شديدًا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم الله عليه.
وروى الطبري: أصيب من بني المصطلق يومئذ ناس كثير، وقَتَل علي بن أبي طالب منهم رجلين: مالكًا وابنه، وأصاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث.
وذكر ابن هشام في السيرة: لما انصرف رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث، دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة، وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "فأين البعيرين اللذين غيبت بالعقيق في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فوالله ما اطَّلع على ذلك إلا الله تعالى، فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين فجاء بهما، فدفع الإبل إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ودفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت، وخطبها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى أبيها فزوجه إياها.
وروى الحاكم عن عبد الله بن أبي الأبيض مولى جويرية عن أبيه؛ قال: سبى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بني المصطلق فوقعت جويرية في السبي، فجاء أبوها فافتداها وأنكحها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وروي أن خبر زواج النبي صلى الله عليه وآله ذاع بين الناس، فأرسل المسلمين ما بأيديهم وأعتقوا نحو مائة أهل بيت من بني المصطلق، وقالوا: أصهار رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وروي عن عائشة قالت: فما نعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها.
وبالجملة: كان زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة ترتب عليها إرسال المسلمين ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق. وقولهم: أصهار رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
وعلى هذه الخلفية انتقل بنو المصطلق من خندق أعداء الدعوة إلى خندق حماية الدعوة، وبدؤا يمارسون تأثيرهم على القبائل من حولهم ويؤمنون حركة الذين آمنوا وتجارتهم بين القبائل، وبعد غزوة بني المصطلق تصدع قوة أبي سفيان.
وفاتها:
قال أبو عمر: توفيت جويرية سنة ست وخمسين. وروى أنها عاشت خمسًا وستين سنة.
عاشرًا: السيدة صفية بنت حيي:
هي صفية بنت حيي بن أخطب بن سعية بن عامر بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن ينحوم من بني إسرائيل؛ من سبط هارون بن عمران عليه السلام، وأمها برة بنت سموأل أخت رفاعة بن سموأل من بني قريظة إخوة النضير.
روى ابن عباس قال: صالح رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أهل خيبر على كل صفراء وبيضاء وعلى كل شيء إلا أنفسهم وذراريهم، قال: فأتي بالربيع وكنانة ابني أبي الحقيق، وأحدهما عروس بصفية بنت حيي بن أخطب، فلما أتي بهما قال: "أين آنيتكما التي كانت تستعار بالمدينة؟"، قالا: أحرجتنا وأجليتنا فأنفقناها، قال: "انظرا ما تقولان فإنكما إن كتمتماني استحللت بذلك دماءكما وذريتكما"، قال: فدعا رجلا من الأنصار، قال: "اذهب إلى مكان كذا وكذا، فانظر نخيلة في رأسها رقعة، فانزع تلك الرقعة واستخرج تلك الآنية فائت بها"، فانطلق حتى جاء بها فقدمهما رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فضرب أعناقهما وبعث إلى ذريتهما، فأتي بصفية بنت حيى بن أخطب، فأمر بلال فانطلق بها إلى منزل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأكثر الناس فيها، فقائل: سريته، وقائل يقول: امرأته وإن لم يحجبها فهي سريته، فأخرجها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فحجبها، وقد كان عرض عليها قبل ذلك أن يتخذها سرية أو يعتقها وينكحها، قالت: لا بل أعتقني وأنكحني ففعل صَلَّى الله عليه وسلم.
وروى ابن إسحاق: إن صفية كانت قد رأت في المنام، وهي عروس بكنانة بن أبي الحقيق، إن قمرًا دفع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمدًا، ولطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها، فأتي بها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وبها أثرا منه فسألها ما هو؟ فأخبرته.
وأخرج ابن سعد عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: لما دخلت صفية على النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال لها: "لم يزل أبوك من أشد اليهود لي عداوة حتى قتله الله"، فقالت: يا رسول الله يقول في كتابه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فقال لها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اختاري، فإن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك"، فقالت: يا رسول الله، لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني، حيث صرت إلى رحلك، وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحب إلى من العتق وأن أرجع إلى قومي، قال: فأمسكها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لنفسه.
وقال المسعودي: وكان زواجه من صفية سنة سبع من الهجرة وروى عن سعيد بن المسيب قال: قدمت صفية بنت حيى في أذنيها خرصة من ذهب، فأهدت منه لفاطمة الزهراء ولنساء معها، وروي عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد الله: أن صفية بنت حُيي لما دخلت على النبي صَلَّى الله عليه وسلم فسطاطه حضرنا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "قوموا عن أمكم" فلما كان من العشي حضرنا، فخرج رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وفي طرف ردائه نحو من مدٍّ ونصف من تمر عجوة فقال: "كلوا من وليمة أمكم". وعن أبي الوليد: كانت وليمة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم السمن والأقط والتمر.
أخرج ابن سعد عن ابن أبي عون قال: استبت عائشة وصفية، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لصفية: "ألا قلت أبي هارون وعمي موسى؟" وذلك أن عائشة فخرت عليها، وأخرج الترمذي عن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: إنها بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صَلَّى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك؟" فقالت: قالت لي حفصة إني بنت يهودي، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟"، ثم قال صَلَّى الله عليه وسلم: "اتقي الله يا حفصة".
وأخرج الترمذي عن صفية أنها قالت: بلغني عن حفصة وعائشة أنهم قالوا: نحن أكرم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من صفية، نحن أزواجه وبنات عمه، فدخل علي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: "ألا قلت: فكيف تكونان خيرا مني وزوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى".
وأخرج ابن سعد بسند حسن عن زيد بن أسلم أن نبي الله صَلَّى الله عليه وسلم في الوجع الذي توفي فيه اجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية بنت حيي: أما والله يا نبي الله لوددت إن الذي بك بي، فغمزنها أزواج النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وأبصرهن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: "مضمضن"، فقلن: من أي شيء يا نبي الله؟ قال: "من تغامزكن بصاحبتكن، والله إنها لصادقة".
وفاتها:
روي أنها ماتت سنة خمسين في زمن معاوية، وقيل سنة اثنتين وخمسين.
حادي عشر: السيدة ميمونة بنت الحارث:
هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال، وأمها: هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير، وقيل: من كنانة، وأخوات ميمونة لأبيها وأمها: أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب، ولبابة الصغرى بنت الحارث زوج الوليد بن المغيرة وهى أم خالد بن الوليد، وعصماء بنت الحارث وكانت تحت أُبي بن خلف الجهمي فولدت له إبان وغيره، وعزة بنت الحارث، كانت تحت زياد بن عبد الله بن مالك، فهؤلاء أخوات ميمونة لأب وأم، أما أخوات ميمونة لأمها: أسماء بنت عميس، كانت تحت جعفر بن أبي طالب، ثم خلف عليها أبو بكر بن أبي قحافة، ثم خلف عليها علي بن أبي طالب، وسلمى بنت عميس أخت أسماء كانت تحت حمزة بن عبد المطلب، ثم خلف عليها بعده شداد بن أسامة بن الهادي، وسلامة بنت عميس أخت أسماء وسلمى، كانت تحت عبد الله بن كعب بن منبه.
ولقد سقنا أسماء الأخوات؛ لنقف على حقيقة مفادها أن مصاهرة القبائل والبيوت في الجاهلية والإسلام كان لها أثرًا بالغًا في المجتمع، فبها كانت تتحرك القبائل بتجارتها من بلد إلى بلد دون خوف من اللصوص والقراصنة، وبها تصبح القبيلة القليلة العدد كثيرة، وبها كانت تنتعش حركة البيع والشراء وما يترتب عليها، والدعوة الإسلامية انطلقت من طريق المصاهرة إلى مدى بعيد، كانت الدعوة همها بالله وشغلها فيه وفرارها إليه، وكانت المصاهرة والتعارف على هذا الطريق بمثابة الواحة التي تستقبل القادمين بالزاد الفطري من كل فج.
وأخرج ابن سعد: أن مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي تزوج ميمونة في الجاهلية، ثم فارقها، فخلف عليها أبو رهم بن عبد العزى بن أبي قيس من بني مالك، فتوفي عنها، فتزوجها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، زوجه إياها العباس بن عبد المطلب، وكان ولي أمرها، وتزوجها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة، وكانت آخر امرأة تزوجها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وذلك سنة سبع في عمرة القضية.
ورعها:
أخرج ابن سعد عن مجاهد قال: كان اسم ميمونة برة، فسماها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وروي عن يزيد بن الأصم قال: كان مسواك ميمونة بنت الحارث، منقعًا في ماء، فإن شغلها عمل أو صلاة وإلا أخذته فاستاكت به. وروي عنه أنه قال: أن ذا قرابة لميمونة دخل عليها، فوجدت منه ريح شراب فقالت: لئن لم تخرج إلى المسلمين فيجلدوك ــ أو قالت: يطهروك ــ لا تدخل علي بيتي أبدًا.
وروي عن الفضل بن دكين قال، حدثنا عقبة بن وهب عن يزيد بن الأصم قال: رأيت أم المؤمنين ميمونة تحلق رأسها بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فسألت عقبة: لم؟ فقال: أراه تبتلًا، وروي عن أبي عائشة: أن ميمونة أبصرت حبة رمان في الأرض، فأخذتها وقالت: إن الله لا يحب الفساد.
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "الأخوات مؤمنات ميمونة وأم الفضل وأسماء".
وفاتها:
روي أن ميمونة رضي الله عنها ماتت سنة إحدى وستين، وقيل: سنة ست وستين، وقال أبو عمر: توفيت بسرف سنة ست وستين، وصلى عليها ابن عباس، ودخل قبرها هو ويزيد بن الأصم وعبد الله بن شداد؛ وهم بنو أخواتها، وعبيد الله الخولاني؛ وكان يتيما في حجرها.
وأخرج ابن سعد: توفيت ميمونة رضي الله عنها بمكة، فحملها ابن عباس وجعل يقول للذين يحملونها: أرفقوا بها فإنها أمكم، حتى دفنها بسرف. وكان لها يوم توفيت ثمانون أو إحدى وثمانون سنة.
ثاني عشر: السيدة مارية القبطية:
هي مارية بنت شمعون.
قال صاحب الإصابة عن أبي صعصعة قال: بعث المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بغلته الدلال وحماره عفير، ومع ذلك خصي يقال له: مأبور شيخ كبير كان أخا مارية.
ويمكن الوقوف على أصول هذه الأسرة، إذا علمنا أن مارية القبطية لم تكن جارية عادية شأنها كشأن غيرها من الجواري، بمعنى إنها لم تكن من العامة وإنما كانت من الخاصة، فعن عروة عن عائشة قالت: أهدى ملك بطارقة الروم يقال له: المقوقس جارية من بنات الملوك يقال لها: مارية إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "استوصوا بالقبط خيرا؛ فإن لهم ذمة ورحما"، قال: ورحمهم أن أم إسماعيل بن إبراهيم منهم، وأم إبراهيم ابن النبي صَلَّى الله عليه وسلم منهم.
وروى ابن كثير وغيره: أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم كان يركب في المدينة البغلة التي أهداها إليه المقوقس، وأنه ركبها يوم حنين، وقد تأخرت هذه البغلة وطالت مدتها، وكانت عند علي بن أبي طالب، كان يركبها يوم الجمل، ثم صارت إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكبرت حتى كان يحش لها الشعير لتأكله.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يطأ مارية بملك اليمين، ووهب أختها لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن، وروي عن عبد الرحمن بن زياد قال: أتى جبريل عليه السلام، فقال للنبي صَلَّى الله عليه وسلم: "إن الله قد وهب لك غلاما من مارية، وأمرك أن تسميه إبراهيم".
وروي عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم"، وروى أبو عمر: إن إبراهيم ابن النبي صَلَّى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثمانية عشر شهرًا. وقيل: وهو ابن ستة عشر شهرًا. وذكر ابن كثير في البداية والنهاية: لما توفي إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله، بعث علي بن أبي طالب إلى أمه مارية، فحمله علي بن أبي طالب وجعله بين يديه على الفرس، ثم جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فغسله وكفنه وخرج به وخرج الناس معه، فدفنه في الزقاق الذي يلي دار محمد بن زيد، فدخل علي بن أبي طالب في قبره، حتى سوى عليه ودفنه، ثم خرج ورش على قبره وأدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده في قبره وبكى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وبكى المسلمون حوله حتى ارتفع الصوت، ثم قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا عليـك يا إبراهيم لمحزونون".
وفاتها:
روي أن مارية رضي الله عنها توفيت سنة ست عشرة في خلافة عمر بن الخطاب، وروي أنها ماتت بعد النبي صَلَّى الله عليه وسلم بخمس سنين ودفنت بالبقيع.
ثالث عشر: السيدة ريحانة بنت زيد:
هي ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة بن سمعون بن زيد من بني النضير، وقال ابن سعد: وكانت متزوجة رجلا من بني قريظة يقال له الحكم، فنسبها بعض الرواة إلى قريظة لذلك.
روي عن محمد بن كعب قال: كانت ريحانة مما أفاء الله على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلما قتل زوجها وقعت في السبي، فكانت صفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم بني قريظة، فخيرها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بين الإسلام وبين دينها فاختارت الإسلام، فاعتقها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وتزوجها وضرب عليها الحجاب.
وروي عن عمر بن الحكم عن ريحانة قالت: لما سُبِيت بنو قريظة، قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله لنفسه"، فقلت: إني أختار الله ورسوله، فلما أسلمت أعتقني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأصدقني كما كان يصدق نساءه، وأعرس بي في بيت أم المنذر، وكان يقسم لي كما كان يقسم لنسائه، وضرب علي الحجاب.
قال ابن سعد: هذا ما روي لنا في عتقها وتزويجها، وهو أثبت الأقاويل عندنا، وهو الأمر عند أهل العلم، وقد سمعت من يروي أنها كانت عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لم يعتقها، وكان يطأها بملك اليمين، ومن ذلك ما روي عن أيوب بن بشير، أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لها: "إن أحببت أن أعتقك وأتزوجك فعلت، وإن أحببت أن تكوني في ملكي"، فقالت: يا رسول الله أكون في ملكك أخفت علي وعليك، فكانت في ملك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
وفاتها:
روى ابن سعد عن عمر بن الحكم قال: لم تزل ريحانة عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع، فدفنها بالبقيع، وكان تزويجه إياها في المحرم سنة ست من الهجرة. وقال صاحب الإصابة: ماتت قبل وفاة النبي صَلَّى الله عليه وسلم بستة عشر شهرا، وقيل لما رجع من حجة الوداع.
الخاتمة:
وفي الختام نقول بما قاله أبو عمر في الاستيعاب: اللواتي لم يختلف أهل العلم فيهن هن إحدى عشر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ست من قريش، وواحدة من بني إسرائيل من ولد هارون عليه السلام، وأربع من سائر العرب.
وتوفي في حياته صلى الله عليه وآله وسلم من أزواجه اثنتان: خديجة بنت خويلد، وزينب بنت خزيمة، وتخلف منهن تسع بعده، أما اللواتي اختلف فيهن ممن ابتنى بها، أو فارقها، أو عقد عليها ولم يدخل بها، أو خطبها ولم يتم له العقد معها، فقد اختلف فيهن وفي أسباب فراقهن اختلافا كثيرًا، يوجب التوقف عن القطع بالصحة في واحدة منهن. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.