صور مشرقة من احتساب الفاروق عمر رضي الله عنه
عبد الله علي العبدلي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
لقد كان الفاروق عمر – رضي الله عنه – حازماً مهيباً،
مقتفياً آثار النبي – صلى الله عليه وسلم -،
جريئاً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم،
يهاب الشيطان منه فما بلك بمن دونه، فكانت حياته – رضي الله عنه – صفحة مشرقة من التاريخ الإسلامي،
ففيها الشرف والمجد والإخلاص والدعوة والاحتساب والجرأة في الحق،
وفي هذه الصفحات سأعرض شيئاً من الجوانب المشرقة التي حاز عليها
– رضي الله عنه -،
فمن ذلك احتسابه – رضي الله عنه -.
حسبته في مجال العقيدة:
لقد كان عمر – رضي الله عنه – حريصاً على إزالة كل شائبة قد تكدر صفاء عقيدة التوحيد،
مزيلاً كل الشبهات التي من شأنها أن تؤثر على العقيدة سلباً، ومما يدل على ذلك أنه لما قبل الحجر الأسود
قال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقبلك ما قبلتك)([1]).
وقد قال عمر – رضي الله عنه – هذا القول :
"لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام
فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار
كما كانت العرب تفعل في الجاهلية،
فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا
لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان"([2]).
ومن صور احتسابه – رضي الله عنه -:
أنه أمر بقطع الشجرة التي بايع الصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تحتها فإنه علم أن بعض الناس يجتمعون هناك
فخشي أن تصبح هذه الشجرة فيم بعد مزاراً يقصده الناس لأجل التبرك([3]).
ولما رأى انتصارات خالد بن الوليد – رضي الله عنه – وتعلق الناس به،
خشي أن يعتقد الناس أن النصر معلق ببراعة خالد،
فقال – رضي الله عنه -:
"إني لم اعزل خالداً عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع"([4]).
حسبته في مجال العبادة:
من احتسابه في مجال العبادات، أنه كان لا يكبر للصلاة حتى يستقبل الصف المقدم بوجهه،
فإن رأى رجلاً متقدماً من الصف أو متأخراً ضربه بالدرة([5]).
وكان ينهى – رضي الله عنه – اللغط في المسجد ورفع الأصوات فيه،
تعظيماً لشعائر الله،
فعن السائب بن يزيد قال:
"كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب،
فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما،
قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف،
قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -!"([6]).
وقد فرق عمر – رضي الله عنه – بين أهل المدينة وغيرها في هذا؛
لأن أهل المدينة لا يخفى عليهم حرمة مسجد رسول الله وتعظيمه،
بخلاف من لم يكن من أهلها،
فإنه قد يخفى عليه مثل هذا القدر من احترام المسجد، فعفى عنه بجهله([7]).
وكان – رضي الله عنه – يحتسب على من يتسامح في فتواه قبل أن يتحقق،
فعن سالم بن عبد الله بن عمر أنه سمع أبا هريرة يحدث عبد الله بن عمر:
أنه مر به قوم محرمون بالربذة فاستفتوه في لحم صيد وجده أناس
أحلة أيأكلونه؟
فأفتاهم بأكله،
قال: ثم قدمت على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فسألته عن ذلك،
فقال: بما أفتيتهم؟
قال: قلت أفتيتهم بأكله قال عمر رضي الله – تعالى -عنه لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك([8]).
احتسابه في مجال المعاملات:
كان الفاروق – رضي الله عنه – يشترط أن لا يزاول التجارة إلا من كان يفقه أحكام البيع،
قال – رضي الله عنه –:
"لا يبيعن بسوقكم إنسان إلا إنسان يعقل البيع"([9]).
وفي ورواية عند الترمذي:
"لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين"([10]).
وهذا الشرط من الفاروق – رضي الله عنه – من أجل أن يعرف الإنسان ما يأخذ وما يدع،
ويعرف الحلال والحرام، ولا يفسد على الناس بيعهم وشراءهم بالأباطيل والأكاذيب، وحتى لا يدخل الربا عليهم من أبواب قد لا يعرفها المشتري،
ولتكون التجارة تجارة إسلامية صحيحة خالصة، يطمئن إليها الجميع.
ولم يكتف – رضي الله عنه – بإصدار القرارات والتوجيهات فحسب،
ولكنه كان يتفقد الأسواق،
ويطَّلع على معاملات الناس الجارية فيعلم الجاهل ويذكر الغافل، ويؤدب المحتكرين وينفيهم من أسواق المدينة([11]).
احتسابه على الولاة:
كان الفاروق – رضي الله عنه – يحث عماله وغيرهم من عامة الناس على المعروف وينفرهم من المنكر،
و يحرص على العدل بين الرعية فكان الوالي في نظره فرداً من الأفراد،
يجرى حكم العدل عليه كما يجرى على غيره من سائر الناس،
وكان – رضي الله عنه – يعقد اجتماعاً سنوياً مع عماله بالموسم،
ومرة جمعهم فقال:
"أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم وليقسموا فيئكم بينكم،
فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام،
فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك فلاناً ضربني مائة سوط،
قال: فيم ضربته؟
قم فاقتص منه، فقام عمرو بن العاص
فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك،
فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه،
قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار، كل سوط بدينارين([12]).
وكان – رضي الله عنه – إذا استعمل العمال خرج معهم يشيعهم فيقول:
"إني لم أستعملكم على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم –
على أشعارهم ولا على أبشارهم،
إنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق وتقسموا بينهم بالعدل،…. " ([13]).
حسبته في مجال الأخلاق والآداب العامة:
لقد اشتد عمر – رضي الله عنه – على أهل الريب والتهم وهو أول من عس في عمله بالمدينة وحمل الدرة وأدب بها،
ولقد قيل بعده لدرة عمر أهيب من سيفكم ([14]).
وكان عمر – رضي الله عنه – يعس ذات ليلة بغية الاطمئنان على أحوال رعيته، فسمع امرأة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها، أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج؟
فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو من بني سليم فأرسل إليه فأتاه فإذا هو من أحسن الناس شعراً وأصبحهم وجهاً،
فأمره عمر أن يحلق شعره ففعل، فخرجت جبهته فازداد حسناً، فأمره عمر أن يعتم ففعل، فازداد حسناً،
فقال عمر: لا والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أنا بها!
فأمر له بما يصلحه وسيره إلى البصرة([15]).
ومن احتسابه أنه عاقب الحطيئة وسجنه، ثم أطلقه، واشترى أعراض المسلمين منه بثلاثة آلاف درهم حتى قال الحطيئة:
وأخذت أطراف الكلام فلم تدع *** شتماً يضر ولا مديحاً ينفع
ومنعتني عرض البخيل فلم يخف *** شتمي فأصبح آمناً لا يفزع ([16])
قال الإمام السيوطي:
إن الفاروق أول من عاقب على الهجاء([17]).
وكان الفاروق – رضي الله عنه – يزجر المغالي،
فمرة قال له رجل:
"ما رأيت مثلك، قال: رأيت أبا بكر،
قال: لا، قال: لو قلت نعم إني رأيته لأوجعتك ضرباً"([18]).
ولقد كان اهتمام الفاروق- رضي الله عنه – بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظل معه حتى وهو يواجه الموت بكل آلامه وشدائده،
ذلك أن شاباً دخل عليه لما طعن، ليواسيه،
وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله
– صلى الله عليه وسلم -،
وقِدَم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة،
قال- أي عمر-: وددت أن ذلك كفاف، لا عليّ ولا لى،
فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض،
قال: ردوا علَيّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك([19]).
ولذا قال ابن مسعود – رضي الله عنه – فيما رواه عمر بن شبة: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق([20]).
ومن عنايته الفائقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة الموت أنه لما دخلت عليه حفصة – رضي الله عنها –
فقالت: يا صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -،
ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين،
فقال عمر لابن عمر – رضي الله عنهما –:
يا عبد الله، أجلسنى فلا صبر لى على ما أسمع.
فأسنده إلى صدره، فقال لها: إني أُحَرِّج عليك بما لي عليك من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها([21]).
وعن أنس – رضي الله عنه –:
أن عمر بن الخطاب لما طعن عولت عليه حفصة فقال يا حفصة أما سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم –
يقول المعول عليه يعذب؟
وعول عليه صهيب فقال عمر يا صهيب أما علمت أن المعول عليه يعذب؟ ([22]).
هذه جوانب مضيئة من احتساب أبي حفص عمر – رضي الله عنه – ذكرتها للمثال لا للحصر،
أما فتوحاته ونشره للإسلام شرقا وغربا وتحطيمه للإمبراطوريتين الفارسية والرومية واحتسابه العظيم في ذلك فهو أشهر من أن يذكر،
رحم الله أبا حفص عمر ***وسقى بقعته صوب المطر.
___________
[1] – رواه البخاري، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، (2/579)، برقم (1520)، ومسلم كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف(2/925)، برقم (1270)
[2] – فتح الباري (3/463).
[3] – مصنف ابن أبي شيبة (2/150)، برقم (7545).
[4] – البداية والنهاية (7/81)، الكامل في التاريخ (1/441).
[5] – الطبقات الكبرى لابن سعد (3 /340).
[6] – رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد (1/179)، برقم (458).
[7] – فتح الباري لابن رجب (2/565).
[8] – رواه البيهقي في السنن الكبرى (5/189)، برقم (9695)، ومالك (1/352)، برقم (783)، وعبد الرزاق في مصنفه (4/432)، برقم(8342)
[9] – مصنف ابن أبي شيبة (5/15)، برقم (23270).
[10] – رواه الترمذي (2/357)، وقال الألباني: إسناده حسن.
[11] – ذكر ذلك ابن حجر وعزاه إلى بعض المؤرخين. انظر: فتح الباري(12/160).
[12] – الطبقات الكبرى لابن سعد (3 /293- 294).
[13] – تاريخ الأمم والرسل والملوك للطبري (2/567).
[14] – الطبقات الكبرى لابن سعد (3/282).
[15]- الطبقات الكبرى لابن سعد (3/285).
[16] – محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ليوسف بن حسن بن عبد الهادي المبرد (1/376).
[17] – تاريخ الخلفاء (1/123).
[18] – مصنف ابن أبي شيبة (6/349)، برقم (31933).
[19] – رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عثمان – رضي الله عنه – (3 / 1353)، برقم (3497)
[20] – انظر فتح الباري (7 / 65).
[21] – الطبقات الكبرى لابن سعد (3 / 361).
[22] – رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه
(2 / 638)، برقم (927)