سراقة بن مالك والوعد المدهش
أيها الأخوة المؤمنون، مع سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضوان الله عليهم أجمعين، صحابي اليوم سيدنا سراقة بن مالك. يمكن أن نستنبط من سيرته، حقائق كثيرة تفيدنا في حياتنا المعاصرة، فالذي ينبغي أن نعلمه من السيرة، أن مواقف الصحابة مواقف مثالية، فإذا عرفنا بواطن مواقفهم، وأسرارها، يمكن أن نكون قد تعلمنا تفاصيل كثيرة عن الدين من خلال سيرتهم. هجرة النبي وأبو بكر من مكة إلى المدينة: عودة إلى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم سرى نبأُ هجرته في مكة كان نبأ غريبًا، أن محمداً قد بارح مكة، مستتراً بجنح الظلام، فلم يصدِّق زعماء قريش النبأ، واندفعوا يبحثون عن النبي في كل دارٍ من دور بني هاشم، وينشدونه في كل بيت من بيوت أصحابه، حتى أتوا منزل أبي بكر، فخرجت إليهم ابنته أسماء، قال لها أبو جهل: أين أبوك يا بنت؟ قالت: لا أدري أين هو الآن؟ فرفع يده ولطم خدها لطمة أهوت بقرطها على الأرض، وصار يغلي غضباً، يعني كلهم يظنون أن محمداً في قبضتهم، وأنه بالتعبير الحديث الورقةُ الرابحة التي في أيديهم، فجأةً غادر هذا النبي الكريم مكةَ المكرمة، انطلق زعماء قريش في كل اتجاه، يبحثون عن محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن أيقنوا أنه غادر مكة، وكان عند العرب قفاةٌ للآثار، أي خبراء، فتتبَّع قُفاةُ الآثارِ آثارَ النبي فوصلوا من خلال آثاره إلى غار ثور، مكان اختباء النبي وصاحبه الصدِّيق، قال خبراء الآثار حينما وصلوا غار ثور: والله ما جاوز صاحبكم هذا الغار، ولم يكن هؤلاء مخطئين فيما قالوه لقريش، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه داخل الغار، وكانت قريش تقف فوق رأسيهما. ونحن هنا أمام مجموعة استدلالات دقيقة جداً، ونحن كمسلمين في أشد الحاجة إليها، والنبي الكريم حينما هاجر من مكة إلى المدينة، أخذ بكل الأسباب، فسار مساحلاً، عكس الطريق المألوف إلى المدينة، خرج في جنح الظلام، عيَّن رجلاً يمحو الآثار، رجلاً يتتبع الأخبار، وشخصًا يأتيه بالزاد، فما من ثغرةٍ إلاَّ وسدَّها، وما من احتياط إلا وغطاه، ما من خطة إلا وأحكمها، ومع ذلك وصل كفار قريش إلى الغار. وماذا يعني أن يصل كفار قريش إلى الغار؟ السؤال موجَّهٌ إليكم، وأعِينكم على الإجابة بسؤال فرعي، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بهذه الأسباب واعتمد عليها، وفوجئ أن كفار قريش كانوا على باب الغار، فماذا يمكن أن يحصل؟ ينبغي أن ينهار النبي، لأنه أخذ بالأسباب واعتمد عليها، لكن النبي أخذ بالأسباب واعتمد على الله. أقول لكم دائماً أيها الأخوة، ولو أعدتها كثيراً، هذه حقائق أساسية، ينبغي أن ترسخ عندكم، القرآن الكريم أعاد بعض القصص سبع عشرة مرة، إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فقد أشركت، وإن لم تأخذ بها فقد عصيت، وخيطٌ دقيق يبعدك عن الشرك، وعن المعصية، أن تأخذ بالأسباب، وأن تعتمد على الله، وهكذا فعل النبي، أخذ بكل الأسباب، واعتمد على الله تعالى. لتي يمكن أن تستنبط من فعل النبي أنه إن لم تكفِ الأسباب التي أخذتها لنجاتك، فعندئذٍ يتولى الله رعايتك بطرق خاصة، بخرق العادات، وإن لم يكف أخذُ الأسباب لبلوغ هدفك، فأنت أخذت بالأسباب تأدباً مع الله عز وجل، وطاعةً له، لكن هذا الأخذ بالأسباب إن لم يكفِ تولّى اللهُ عز وجل خرقَ العادات من أجلك، لأنك أخذت بالأسباب، وهذه مشكلة المسلمين اليوم. وصل كفار قريش إلى غار ثور، وبقي النبي رابطَ الجأش، واثقاً من نصر الله عز وجل له، لم تلِن له قناة، وما خارت قواه، فأنت افعل ما تؤمر، وعليك أن تأخذ بالأسباب، فإن لم تكفِ الأسباب خَرَقَ اللهُ لك العادات. بالمناسبة لن يكون خرق العادات إلا بعد الأخذ بالأسباب، فأي إنسان قال: أنا مؤمن والحمد لله وهؤلاء كفار، الله لا يحبهم، إنه يحبني وحدي، هو سينصرني عليهم من دون أن أفعل شيئًا، هذه هي المعصية بعينها، وهذا هو الجهل بعينه، إن أخذت بالأسباب ولم تكفِ الأسباب خَرَق الله لك العادات، فإن لم تأخذ بها دفعتَ الثمن باهظاً. سيدنا الصديق لما رأى أقدام القوم تتحرك فوق الغار دمعت عيناه، وفي روايات تفصيلية أن قطرةً من دمع الصديق وقعت على يد النبي، فانتبه النبي وقال: أتبكي يا أبا بكر؟ قال: واللهِ ما على نفسي أبكي، ولكن مخافة أن أرى فيك مكروهاً يا رسول الله، -أنا واحد، لكنْ أنت أمة مرة سيدنا أبو حنيفة رأى طفلاً على مقربةٍ من حفرة، فقال: يا غلام إياك أن تسقط كان هذا الطفل ذكياً ونبيهاً، فقال: أنت يا إمام إياك أن تسقط، أنا إن سقطتُ سقطتُ وحدي، وأنت إن سقطت سقط معك العالَم ما من مصيبة في الدنيا أكبر من أن تهتز عندك القدوة، من أن يهتز المثل، مِن أن يخيب ظنك بمن ظننته مثلاً أعلى، لذلك فسقوط الإنسان من السماء إلى الأرض أهون من أن يسقط من عينه مَثلُه الأعلى. فقال عليه الصلاة والسلام مطمئناً: لا تحزن يا أبا بكر فإن الله معنا فقال الصديق: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موطئ قدميه لرآنا فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما يبدو أن عين أحد كفار قريش وقعت على عين الصديق، عين على عين، فقال: لقد رأونا فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر، ألم تقرأ قوله تعالى: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [سورة الأعراف الآية: 198] والله هذه الكلمة (إن الله معنا)، كبيرة عظيمة، فإذا كان اللهُ معك فمَن عليك؟ فقال عز وجل: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة التوبة الآية: 40] فأنت كل بطولتك أن يكون الله معك، كن مع الحق وانتهى كل شيء، إذا كنت بطلاً كن مع الحق، ولا تخشَ في الله لومة لائم. فإذا حفِظَ اللهُ إنسانًا فليس عليه بأس، وإذا أَحَبَّ اللهُ أنْ ييسِّر لك أمرًا تجده قد تمَّ لك كلمح البصر بتيسير الله عزوجل، فإذا كان الله عليك، فمَن معك؟ لذلك مِنَ الدعاء النبوي: اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [سورة الليل الآية: 5 -10] قيل لأمية بن خلف: كان في الغار، فقال أمية بن الخلف ساخراً: ألم ترَ إلى هذا العنكبوت قد عشَّش على بابه قبل ميلاد محمد. ولْنسْأَلْ هذا السؤال: لماذا ينصر الله عز وجل نبياً، كريماً، عظيماً، وينصر دينه بخيوط عنكبوت؟ هذه هي العظمة، لأن الله عز وجل جعل الدين هو رسول الله، فإن قتل انتهى الدين، إله عظيم، بيده أن يزلزل من تحتهم الأرض، بيده أن ينسف الجبال نسفاً، بيده أن يجعل البحر طريقاً، بيده أن يجعل هؤلاء الكفار أصناماً فجأةً، نصر دينه عن طريق العنكبوت، وعن طريق حمامةٍ، هذه عظمة الله عز وجل. فرعون رأى في المنام أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على ملكه، فالتدابير عنده سهلة جداً، إذاً: سنذبح كل أطفال بني إسرائيل، أما هذا الطفل الذي سوف يقضي على ملكه تربى في القصر عنده، قال تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [سورة القصص الآية: 8] هذه آيات الله عز وجل: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [سورة طه الآية: 36 ـ 39] فعل الله عجيب، كن مع الله فقط، لكنّ أبا جهل وكأنّ عنده حاسة سادسة غريبة، قال: واللات والعزى إني لأحسبه قريباً منا، يسمع ما نقول، ويرى ما نصنع، ولكن سحره ران على أبصارنا، والموقف محيِّرٌ، أنا أشعر أن محمدًا في الغار. سراقة بن مالك والجائزة الثمينة لمن يقبض على النبي حياً كان أم ميتاً؟ حينما يئست قريش أن تقبض على النبي وضعت جائزة مئة رأس من الإبل، أقدِّر أن ثمنها الآن مئة وخمسون ألف ناقة، مائة وخمسون ألف ضرب مئة، يعني خمسة عشر مليون ليرة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، وسراقة صحابي هذا الدرس، سراقة بن مالك كان في بعض أندية قومه قريباً من مكة، فإذا برجل يدخل عليهم، ويذيع فيهم نبأ الجائزة التي بذلتها قريش لمن يأتيها بمحمدٍ حياً أو ميتاً، رقم يغري، ثروة طائلة، من أجل قتل محمد قضية سهلة، قال: فما كاد سراقة يسمع بالنوق المئة حتى سال لعابه، واشتد عليها حرصه، ولكنه كان ذكيًّا جداً، فضبط نفسه، ولم يَفُهْ بكلمة واحدة حتى لا يلفت نظر الآخرين، وقبل أن ينهض سراقة من مجلسه، دخل على مكان وجوده رجلٌ، يقول: واللهِ لقد مرّ بي الآن ثلاثة رجال، وإني لأظنهم محمداً وأبا بكرٍ ودليلهما، فقال سراقة: إنهم بنو فلان مضوا يبحثون عن ناقة لهم أضلّوها، يريد أن يصرف الناس عن هذه الجائزة، فقال الرجل: لعلهم كذلك، وسكت. مكث سراقة قليلاً حتى لا يثير اهتمام أحدٍ، فلما دخل القوم في حديثٍ آخر انسل من بينهم، ومضى خفيفاً مسرعاً إلى بيته، وأَسَرَّ لجاريته بأن تخرج له فرسه في غفلة من أعين الناس، وأن تربطه له في بطن الوادي، وأمر غلامه بأن يعد له سلاحه، وأن يخرج به خلف البيوت حتى لا يراه أحد، وأن يجعل السلاح في مكانٍ قريبٍ من الفرس، ولبس سراقة درعه، وتقلد سلاحه، وركب صهوة فرسه، وطفق يغذُّ السير ليدرك محمداً قبل أن يدركه أحدٌ سواه، ويظفر بجائزة قريش. سراقة والعهد الذي أخذه من رسول الله؟ من السذاجة أن تظن أن الله يسلِّم أولياءه إلى أعدائه، ومن الحمق، ومن الغباء، وكان سراقة بن مالك فارساً من فرسان قومه، طويل القامة، عظيم الهامة، بصيراً باقتفاء الأثر، من خبراء الآثار، صبوراً على أهوال الطرق، وكان إلى ذلك أريباً، لبيباً، شاعراً، وكانت فرسه من عتاق الخيل، مضى سراقة يطوي الأرض طياً، لكنه ما لبث أن عثرت به فرسه وسقط عن صهوتها، فتشاءم، وقال: ما هذا؟ تباً لكِ من فرس، وعلا ظهرَها، غير أنه لم يمضِ بعيداً حتى عثرت به مرةً أخرى، فازداد تشاؤماً، وهمَّ بالرجوع، فما ردّه عن همّه إلا طمعه بالنوق المئة، فلم يبتعد سراقة كثيراً عن مكان عثور فرسه حتى أبصر محمداً وصاحبه، فمدَّ يده إلى قوسه، ولكن يده جمدت في مكانها، -اليد بيد مَن؟ بيد الله. ذلك بأنه رأى قوائم فرسه تسيخ في الأرض، شيء غريب! فدفع الفرس فإذا هي قد ساختْ ثانيةً في الأرض، كأنما سمرت بمسامير من حديد- فالتفت إلى النبي وصاحبه، وقال بصوت ضارع، وقد أدْرَك هذا الإنسان لا بعقله ولكن بفطرته أن خالق الكون مع محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الفطرة: يا هذان، ادعوا لي ربكما أن يطلق قوائم فرسي، -وهذا يذكِّرنا بفرعون، ماذا ادّعى؟ ادّعى بأنه إله، قال تعالى: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [سورة النازعات الآية: 24] ولما أصيب قوم فرعون بمصائب عديدة ما كان موقف فرعون من موسى: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [سورة الأعراف الآية: 134] يعني أنّ ادعاءه سخافة، ودجل، أدرك سراقةُ بفطرته أن هذا رسول- ثم قال: ولكما عليّ أن أكفّ عنكما، فدعا له النبي فأطلق الله له قوائم فرسه فأُطلِقتْ، لكنه تذكّر مئة ناقة، فما لبثت أطماعُه أن تحركت من جديد، فدفع فرسه نحوهما فساخت قوائمها هذه المرة أكثر من ذي قبل، وسعي النبي لا يكفي لنجاته من سراقة رغم توكُّله، فماذا فعل الله عز وجل؟ خرق العادات، ونصر نبيه، وهذا هو محور الدرس، فأنت عليك أن تأخذ بالأسباب، فإنْ لم تكفِ خرق الله لك العادات، أما إن لم تأخذ بالأسباب لم يخرق الله لك العادات، وهذه للنبي معجزة، ولغيره من المؤمنين كرامة. كان سيدنا الصديق يمشي مرةً عن يمينه، ومرةً عن شماله، ومرةً أمامه، ومرةً وراءه، فالنبي الكريم تحيَّر، قال: ما هذا يا أبا بكر؟ قال: والله يا رسول الله، أخاف أن تُطلَب من خلفك فأمشي من ورائك، وأخاف أن يأتي الطلب من أمامك فأمشي أمامك، وعن يمينك أكون عن يمينك وأنا لا أعتقد أنّ إنسانًا على وجه الأرض يحب إنسانًا كحبِّ الصديق لرسول الله، ومع ذلك: حينما مات عليه الصلاة والسلام، قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ما هذا التوحيد؟ وكان سيدنا الصديق حريصاً على ألاّ يُصاب الرسول عليه الصلاة والسلام بأدنى أذى- وقال له مرة ثانية: والله ما على نفسي أخاف ولكن أخاف عليك، إن أهلك أهلك وحدي، وإن تهلك تهلك أمة هذا كلام سيدنا الصديق. للمرة الثانية: فاستغاث بهما، وقال: إليكما زادي، الآن يريد أنْ يقدِّم دليلاً آخر، إليكما زادي، ومتاعي، وسلاحي، ولكما عليّ عهد الله أن أردَّ عنكما مَن ورائي من الناس، -لأنه أول مرة كذب، وخان العهد، حتى يؤكد عهده الجديد- قال: خذوا مالي، زادي، ومتاعي، وسلاحي، ولكما عليّ عهد الله عز وجل أن أرد عنكما من ورائي من الناس، فقالا له: لا حاجة لنا بزادك، ومتاعك، ولكن رد عنا الناس، ثم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فانطلقت فرسه، فلما همَّ بالعودة ناداهم قائلاً: تريثوا، فو الله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه، فقال له النبيُّ: ما تبتغي منا؟ فقال: والله يا محمد، إني لأعلم أنه سيظهر دينك، ويعلو أمرك فعاهدني إذا أتيتك في ملكك أن تكرمني، واكتب لي بذلك، أريد وثيقة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصديق فكتب له على لوح عظمٍ، ودفعه إليه، ولما همَّ بالانصراف، قال له النبي عليه الصلاة والسلام، ويبدو أن هذا وحي من الله: كيف بك يا سراقة لو لبستَ سواري كسرى؟ فقال سراقة في دهشة: كسرى ابن هرمز؟ معنى ذلك أن لكسرى شأنًا كبيراً، كانت دولة الفُرسِ من العظمة ما لا يُتصوَّر، والعرب كانوا ضعافًا، وهم قبائل متناحرة، متباغضة جياع، عراة، ما الذي أعزهم؟ الإسلام، أعزهم الله بالإسلام، ومهما نبتغي العزة بغيره أذلنا الله. قال رسول الله: نعم كسرى بن هرمز وهذا من إعلام الله له، وليست مِن عنده، قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) [سورة الجن الآية: 26 ـ 27] ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام أن يَعلَمَ بنفسه أنّ هذا الإنسان الذي جاء يلاحقهما سوف يلبس سِوارَيْ كسرى وتاجه. سراقة يفي بالوعد: هذه المرة أصبح سراقةُ وفيًّا، وعاد أدراجه، فوجد الناس قد أقبلوا ينشدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ارجعوا فقد نفضتُ الأرضَ نفضاً بحثاً عنهم، فلا تغلبوا نفسكم، لم أعثُر على أحدٍ، وأنتم لا تجهلون مبلغ بصري بالأثر، فرجعوا، ثم كتم خبره مع محمد وصاحبه حتى أيقن أنهما بلغا المدينة، وأصبحا في مأمنٍ من عدوان قريش، عند ذلك أذاع الخبر، فلما سمع أبو جهلٍ بخبر سراقة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وموقفه منه لامه على تخاذله، وعنفه، وعنف جبنه، وتفويته الفرصة. قال له: أبا حكمٍ، والله لو كنت شاهداً لأَمرِ جوادي إذ تسيخ قوائمه لعلمتَ، ولم تشكك بأن محمداً رسول ببرهانٍ، فمَن ذا الذي يقاومه، إسلام سراقة بن مالك: ثم إنّ الأيامَ دارت، والنبي عليه الصلاة والسلام الذي خرج من مكة طريداً، شريداً، مستتراً بجنح الظلام، يعود إليها سيداً، فاتحاً، تحفُّ به الألوف المؤلفة من بيض السيوف، وإذا بزعماء قريش الذين ملؤوا الأرض عنجهيةً، وغطرسةً، وكبراً، واستعلاء، يقبلون على النبي خائفين واجفين، يسألونه الرأفة، ويقولون: ماذا عساك أنْ تصنع بنا يا محمد؟ فيقول عليه الصلاة والسلام في سماحة الأنبياء اذهبوا فأنتم الطلقاء عند ذلك أعدّ سراقة بن مالك راحلته، ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه، ومعه العهد الذي كتبه له قبل عشر سنوات، قال سراقة: لقد أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، فدخلتُ في كتيبة الأنصار، فجعلوا يقرعونني بكعوب الرماح، ويقولون: إليك إليك، ماذا تريد؟ فما زلتُ أشقُّ صفوفهم حتى غدوتُ قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على ناقته فرفعت يدي بالكتاب، وقلت: يا رسول الله، أنا سراقة بن مالك، وهذا كتابك لي، فقال عليه الصلاة والسلام: يوم وفاء وبر، ادنُ فأقبلت عليه، وأعلنتُ إسلامي بين يديه، ونلتُ من خيره، وبره، ولم يمضِ على لقاء سراقة بن مالك برسول الله غير زمن يسير حتى اختار الله نبيه إلى جواره. حزن سراقة أشد الحزن، وجعل يتراءى له ذلك اليوم الذي همَّ بقتله، من أجل مئة ناقة وكيف أن نوق الدنيا كلها قد أصبحت اليوم لا تساوي عنده قلامة من ظفر النبي؟ هذا الإيمان، قال أبو سفيان لخبيب بن عدي: أتحبُّ أن تكون مع أهلك ومحمد مكانك يُصلَب؟ قال له: واللهِ ما أحب أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله بشوكة الإسلام كله حب، وإيثار، وإخلاص، ووفاء، وحينما لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولم يبق من القرآن إلا رسمه، وحينما يفرغ الدين من قيمه، ويصبح طقوساً، وعباداتٍ جوفاء، فاقرأْ على المسلمين السلام. سراقة يلبس تاج كسرى وسواريه: ثم دارت الأيام دورتها كرةً أخرى، وآل أمر المسلمين إلى الفاروق رضوان الله عليه، وهبت جيوش المسلمين في عهده المبارك على مملكة فارس، فطفقت تدكُّ الحصون، وتهدم الجيوش، وتهز العروش. وفي ذات يوم من أواخر أيام خلافة عمر قدم على المدينة رسل سعد بن أبي وقاص يبشرون خليفة المسلمين بالفتح، ويحملون إلى بيت مال المسلمين خمس الفيء الذي غنمه الفاتحون، فلما وضعت الغنائم بين يدي عمر نظر إليها في دهشة، فقد كان فيها تاج كسرى المرصع بالدر، وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب، ووشاحه المنظوم بالجوهر، وسواراه اللذان لم تر العين مثلهما قط، ومالا حصر له من النفائس الأخرى، فجاء عمر يقلب هذا الكنز الثمين بقضيبٍ كان بيده، ثم التفت إلى من كان حوله، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وإلى جانبه سيدنا علي، فقال له: ما الذي يبكيك؟ أعجبت من أمانة هؤلاء؟ فقال له الفاروق: إنّ قومًا أدُّوا هذا لأُمناء حقًّا تاج كسرى ثمنه مئات الملايين، لو أن هذا الذي أخذه ذهب به إلى أنطاكية لعاش أغنى الأغنياء قال له: يا أمير المؤمنين، لقد عففتَ فعفُّوا، ولو وقعتَ لوقعوا دعا الفاروق رضوان الله عليه سراقة بن مالك فألبسه قميص كسرى، وسراويله، وقباءه، وخفيه، وقلده سيفه، ومنطقته، ووضع على رأسه تاجه، وألبسه سواريه، عند ذلك هتف المسلمون الله أكبر الله أكبر، لقد تحققت نبوءة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذه النبوءة ليست من عند النبي، إنما هي وحي أوحي إليه، ثم التفت عمر إلى سراقة، وقال: بخٍ بخٍ يا سراقة أعرابيٌ من مدلج على رأسه تاج كسرى، وفي يديه سواراه، ثم رفع عمرُ رأسه إلى السماء، وقال: اللهم إنك منعتَ هذا المال لرسولك، وكان أحبَّ إليك مني، وأكرمَ عليك، ومنعته أبا بكرٍ، وكان أحبَّ إليك مني، وأكرمَ عليك، وأعطيتنيه، وأعوذ بك أن تكون قد أعطيتنيه لتمكر بي، ثم لم يقم من مجلسه حتى قسمه بين فقراء المسلمين وانتهى الأمر. هكذا كان أصحاب النبي، وهكذا كان عطاؤهم، وورعهم، وتواضعهم. والحمد الله رب العالمين
|