يتملكني – دوما – شعور يشبه الخجل عندما أدخل في حوار بسيط مع شخص ما ، ثم فجأة يأخذ الحوار بيننا مأخذا شخصيا ، فيسألني – دونما سابق إنذار – عن مهنتي ، فيبتلعني غول الصمت ، ويلفني شيء من الارتباك الذي يعقد لساني ، فأقف – عندئذ -عاجزا عن الرد .. هكذا يظل محدثي يتأملنى بنظرات يأكلها الشك ، وربما يذهب به الشك إلى حد التوجس منى ، كما لو كنت مجرما خطيرا أو لصا مشبوها.. أعترف أنني أشعر بالحسد من الذين يجيدون قول الحقيقة دون أن يهتز لهم طرف .. أحسد ساعي البريد ( مثلا ) ، فهو لا يحتاج إلى من يسأله " ما هي وظيفتك " ؟ كما أحسد المهرج والمجنون ، حيث أنك تعرف حقيقتهم في سماهم ، ولكن ، في حالتي أنا يبدو الأمر في غاية التعقيد ..
تسألونني لماذا ؟؟ لأني حفار قبور .. هـه .. أرأيتم كم تقززتم وأنتم تسمعون عن وظيفتي ؟ مع ذلك … سوف أقول لكم أنني حفار قبور ممتاز ، وأن عملي هذا ورثته عن والدي ، كما ورثه هو عن والده ، كما ورثه والده عن جده .. نعم يا سادتى .. أنا أكسب قوتي ، وقوت أطفالي من القبور التي أحفرها يوميا ، فتتحول كل حفرة إلى دار للآخرة يسكنها هؤلاء الذين يتقززون اليوم منى في دنياهم ، يعنى أنني لا أختلف عن البناء والمهندس في شيء ، وإن كان هؤلاء يصممون المباني لحياة الدنيا ، أنا أصمم القبور لحياة الآخرة ، وأكسب بذلك راحة بالي ، واعتزازي بنفسي وأنا أستوعب يوما بعد يوم أهميتي .. شعوري بالاعتزاز نابع أيضا من قناعتي أنني إنسان شريف ، أنا أمارس العمل الوحيد في الدنيا الذي لا يمكن الاستغناء عنه ، ولا يمكن الغش أو المساومة فيه ، فهل سمعتم مثلا عن حفار قبور أخذ رشوة أثناء أداء عمله ؟؟ هل سمعتم بحفار قبور خان ميتا ، أو أساء إليه .. ففي نهاية الأمر أنا موظف مفروغ منه ، لا أقل شأنا عن أي موظف مهم .. الطبيب الذي يقدس الناس مهنته ليس معصوما من الخطأ ، قد يصف لمريضه علاج ينتهي به إلى حفرة أحفرها بنفسي ، بينما أنا لا حق لي في الخطأ ، الحفرة التي أحفرها تسع أي شخص ، أكان رجلا أم امرأة ، غنيا أم فقيرا ، عالما أم جاهلا ، أبيضا أم سودا ، قبوري تصنع حالة من التساوي ، من العدالة بين كل الناس ، فلا وجود للتمييز العنصري ، ولا للطبقية الاجتماعية ، ولا للغش والمحسوبية ، تعلمت .. هذا ما تعلمته من عملي ، أن الموت هو الشيء الوحيد الذي لا يعرف المجاملة .. الموت قطار أبدى يركبه البشر جميعا..
زوجتي تلح على كي أبحث عن وظيفة أخرى ، وقد أوصت زوج أختها ليوظفني في مطعمه بوسط المدينة .. هل تتخيلونني نادل مطعم يجتمع فيه كل أنواع الحمقى والكذابين ، والمدعين ، ليمارسوا دور العظمة على عقدهم الدفينة ؟ " قلت لزوجتي أنا فخور بعملي ، حفار قبور أبا عن جد ، ولن أكون غير ذلك .. كل القبور التي حفرتها يشهد لي أصحابها عن أمانتي ، وإخلاصي وإنسانيتي أيضا.. زوجتي تتهمني بنقص الطموح ، والناس يتعاملون معي كما لو كنت أنا الموت بعينه ، مع ذلك .. راحة ضميري لا توازيها كنوز الدنيا..
ترجمة : ياسمينة صالح
قصة للكاتب الإسباني : خوزى مونسيرات