المُهْرَةُ
[ خُلاصةٌ مُستخلَصَة من المقامة الكُبرى " إدامة النُّضْرَة " ]
حبَّرَها : عبدُ الله بنُ سُليمان العُتَيِّق
بسم الله الرحمن الرحيم
حدَّثنا أبو الطيِّب الوائليُّ ، قال : : سَرَت بي أيام الزمان ، إلى أشرف الأوطان ، فلقيتُ قوماً نجباء ، أعزةً شرفاء ، نالوا من الخيرِ أجمعه ، و أعرضوا عن الشر أكتعه ، أكتنفوا خِصال الأُخُوَّة ، و هاموا بحب ذي النبوَّة ، بَدَت على وجوههم سيماءُ الصلاح ، و بانت أعلام الفلاح ، و ارتشفوا من معينِ الهدى ، و جانبوا مسلَك الردى ، فإليهم اطمأنت نفسي ، و بهم نسيتُ غُثُوْثَة أمسي .
فبينا أنا كذلك سارحٌ ، هتفَ بي صوتٌ ناصحٌ ، أسعد الله يومك ، و حلَلْتَ عند قومك ، مَن القادمُ علينا ، و من القاصد إلينا ؟ ، فأنت لست من أهل الديار ، و لا بِذي درهم و لا دينار ، فاكشف لنا عن حالك ، أرشدك ربي أسنى المسالك .
فقلتُ : أنا جوَّابُ بلاد ، و مختلفٌ على العباد ، أقتطفُ من أطايبهم أجودها ، و أنال من نعمهم أرغدها ، فأنزلتني المَسِيْرةُ في هذه الأرض ، المُكَرَّمةِ بالطول و العرض ، و رأيتُ منكم ما سَرَّني ، و من خصالكم ما سحرني ، فرغبتُ في استكشاف الحال ، و معرفة جميل الخصال ، فهل أجد لديكم البُغية ، فأتخذ منها خير حِلية ؟ .
فأفاد بالقبول ، و ضمن المأمول ، و نادى في القوم ، و درأ اللوم ، أن أكرموا المثوى ، و أجملوا القِرى ، فاهتبلَ الفرصةَ الرجال ، و أظهروا جميل الفعال ، و سمرتُ في الكلام ، على ضوءِ قمر الظلام ، و أخذتنا أحاديثُ السمر ، حتى داهمنا السَّحر .
فكان سَمَرُنا في الأكارم ، و رأسهم أبي القاسم ، عليه صلى الله ، و حفَّه سلامُ الإله ، و ما كان مِن بَدْءِ أمره ، و بُدُوِّ سِرِّه ، و شُنِّفَتْ الآذان بِحُسن المسموع ، و طُيِّبَتْ الألسنُ بالمديحِ المرفوع ، و أبِيْنَتْ فضائلُه ، و أُظهرتْ شمائلُه ، و طَرِبَ القلبُ للمحبوب ، و انجفلَ عنا المرهوب .
و حدا فينا الحادي ، و سبانا بصوته الشادي ، منشداً بِطِيْبِ الأنفاس ، ما قالَه ابنُ سيِّد الناس ، مِن قولٍ وَضَح ، في طليعةِ " المِنَح " (1) :
و بهِ تحقَّقَ مَنْ نماه أجرما *** وافى له و العفوُ لمَّا أجرما
و بِمدحِهِ مَن كان مُغرىً مُغْرَما *** يَغْنى بِدارَيْهِ و يأْمَنُ مَغْرَما
فَرْضُ الصلاة عليهِ منَّا واجبٌ *** و الله قد صلى عليه و سلَّما
و تعلَّقَ القلبُ بالسَّماع ، على تعدُّدِ الأجناسِ منه و الأنواع ، كما قيلَ : " سَماعُ الأصواتِ المُطرِبَة ، بالإنشادات بالصفاتِ النبويَّةِ المُعْرَِبة " (2) ، مُقَوٍّ لمحبةِ المحبوب ، و مُنَمٍّ لتعلُّقِ القلوب ، و ذا مشروطٌ بموافقةِ الحال ، ليَحظى الفؤادُ بحسن الجمال .
ثُم تحدَّثَ أمثلُنا طريقة ، متفوِّها بقولِ الحقيقة ، أخذتنا تنقلاتُ الرجال ، في السفر و الترحال ، إلى مواطنِ الأمجاد ، و مفاخر النُّخْبَةِ الأجداد ، نقتبسُ علومَ الزمان الغابر ، ما يقيمَ الأوان الحاضر ، و قد خصَّني اللهُ بِصٌحبَةٍ ، أُراهم خيرَ نُخْبَةٍ ، و مما نمى إلى الأسماع ، و حالفَ ذيَّاك الاجتماع ، حديثُ رجلٍ أخباري ، و خبَرُ آثاري ، فنقلَ لمجلسنا ما زيَّنه ، و درأَ به ما شيَّنه ، ثم ذكرَ خبراً مؤسفاً ، و للقلبِ مُتلفاً ، أبان فيه عن خبيئة فِسْق ، و تطاولِ ذي مَحْق ، أشار لسطوة أهل الخميس ، و صنيعة الخسيس ، حيثُ تجرأوا بقبحٍ ، و استطالوا بقدحٍ ، على مقام النبُوَّة ، مُستعظمينَ بِفُتُوَّة ، فأطلقوا عنان اليراع ، بلا نهيٍ و امتناع ، لتَخُطَّ مرسوماً ، و تكتب مرقوماً ، يشير بالسُّبَّةِ و النقيصة ، إشارتها لذواتهم الرخيصة ، فأثار فينا الغضبَ ، و استجلبَ لنا الكرب .
فقلنا له بِشَوق ، و نطقنا بأحرف تَوقٍ ، فما كان موقفُ أهل الملة ، المنوَّرين كالأهلة ، أكان جوابُهم الصمت ، فيحقَ بهم المقت ، أم أقاموا دنياهم غضباً ، فأوردوا الضالين عَطَباً ؟ .
فأخذتني الغيرةُ الوائلية ، و اعترتني الغضبةُ الإسلامية ، فغداَ قلمي كاتباً ، و قلبي مراقباً ، قاصداً تحبيرَ مقامةٍ ، أحسبها تفي بالكرامة ، ناصراً بها زين البشر ، منافحاً عنه بلسانٍ كالحَجَرِ ، و إن كنتُ لستُ بذاك ، و إنما أرجو ما هناك ، فهيَ أقلُ ما وَجَبُ ، و أجزأُ ما الحالُ رَغِب ، فاعتليتُ منبراً مُتخيَّلاً ، و عن جهالتي لستُ متزيِّلاً ، فقلتُ لناقل الخبر ، كُفِيْتَ كلَّ الشر ، اسمع مني ما أقول ، فبمولاي الإله أصول :
إن أجودَ ما ينبغي ، و ما إياه الكريمُ ينتغي ، أن يُسعى للذبِّ عن ذي المفاخر ، و النفحِ عن جنابه الطاهر ، فليسَ هيِّنا يتطاوله الحقير ، و ليس مبتوراً يسبُّه الصغير ، فإن أنصاره على مرِّ الأزمان ، و أعوانه في سائر الأوطان ، يأخذون حقَّه كلّه ، و ينصرون دينَه فرعَه و أصلَه .
و حَدَا فينا الحادي ، و سبانا بصوته الشادي ، مُنْشِداً ما قال ابنُ عُجرة (3) ، متفاخراً بالنُّصرة :
دعانا فسمَّانا الشِّعارَ مُقَدَّماً *** و كُنا له عونا على مَن يُناكِرُه
و كُنا له دون الجنودِ بِطانةً *** يُشاورنا في أمرِهِ و نشاورُه
و اسمعوا مني ذِيْ المقالة ، مُعظِّماً فيها صاحبَ الجلالةِ ، و أنشرُ في طيِّها بياناً ، يُدركه العَميُّ عياناً ، و يعلمُ بها مَن بعِلْمِه قد أشَرَق ، و مَن بجهله أرغد و أبرقَ ، و لستُ فيها مجانباً ، و لا للحقِّ مغالباً ، و إنما أذكرُ ما هو جوهري ، و في ديننا ضروريٌ ، فيُنصَرَ في بواطن الأتباع ، بيقظةِ الاقتداء و الاتباع ، محبِّراً في ذلك ركائزَ النُّصْرَة ، و محرِّراً معاقدَ النَّفرة ، مُحتواةٌ في خَمسٍ ، تعتزُّ بها كلُّ نفسٍ :
فأولها و أعلاها ، و أصلها و أسناها : تحقيقُ الإيمان الصادق ، السالمِ من المخارق ، حيثُ هو الدعامة الثانية (4) ، و الركيزة السامية ، و به أمرَ ربنا العَلي ، فقال : { فآمنوا باللهِ و رسولِه النبيِّ الأُمِّي } ، و ذكرَ صاحبُ " الشفا " (5) ، حقيقةَ الإيمان بلا خفا ، فقال و هو المحقِّقُ ، و في قوله مُصَدَّق ، " و الإيمان به صلى الله عليه وسلم هو تصديقُ نبوته و رسالة الله له ، و تصديقُه في جميع ما جاءَ به و ما قالَه ، و مطابقةُ تصديق القلبِ بذلك شهادةَ اللسان بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا اجتمع التصديقُ به بالقلبِ و النطقُ به بالشهادةِ بذلك باللسان تمَّ الإيمان به و التصديق له " .
و المرءُ بهذا العَقْد ، يكون ناظراً إلى الحبيب الأمجد ، على أنَّه إنسانُ الكمالِ المُقتدى به في أحواله ، و الذي تُقْتفى آثاره و خِصاله ، و يكون طُلْعةَ الفؤاد و السريرة ، و محلَّ النظرةِ من البصيرة ، فيَكتَسي القلبُ من أنوار الفضل الكامل ، و يقتبسُ القالَبُ من الحُسْنِ الماثل ، في ذلك الشخص الشريف ، و هذا من دقائقِ هذا الأصل المنيف .
و ثاني المقامات الرفيعة ، في الإيمان بصاحب الشريعة ، كونه برسالته التامة ، مبعوثاً إلى الناس عامة ، مندرجاً في ذلك الثقلان ، الإنس و الجان ، فبه جاءَ النصُّ قاطعاً منيعا ، { قُلْ : يا أيها الناسُ إنَّي رسولُ الله إليكم جميعاً } ، و تنصيصُ أزكى الخلقِ نفساً ، في قوله : " أُعطيتُ خمساً " ، و كذا في القول البَتِّ ، " فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بِسِتٍّ " .
فحَدَا فينا الحادي ، و سبانا بصوته الشادي ، بقولِ جُهَيش بن أويس النَّخَعي (6) ، منشداً بقريضٍ نفيس ألْمَعي :
شرعتَ لنا دين الحنيفةَ بعد ما *** عبدنا ، كأمثال الحمير ، طواغيا
فيا خيرَ مدعوٍ و يا خيرَ مُرْسَلٍ *** من الإنسِ و الجان ، لبيك داعيا
أتيتَ ببرهانٍ من الأمر واضحٍ *** فأصبحتَ فينا صادق الوعد زاكيا
و تمامُ الركيزة ، ذات المنزلة العزيزة ، صيانتها من الخوارق ، و حفظها من البوائق ، ليسلَمَ الإيمان من الفَتقِ ، و يتمَّ بها الرتق ، وعَوْدُها إلى الطعن المشين ، الوارد على شخصه المُبين ، أو المقصود به خبره ، المنقول عن الله بأثره ، فذاك موجبٌ قطع الإسلام ، و الحكم عليه بالإحكام ، في كونه كافراً خبيثاً ، حدُّه القتلُ أصلاً أثيثاً ، منقولاً بأصل الاتفاق ، بين أئمة الآفاق ، لم يُغرِب عنه فحلٌ ، و لم يَنفِه إلا ذو جهل .
و ثاني هاتيك الدعائم ، معرفةُ الخصائص العظائم ، فهو المُكرَّمُ بأشرفِ المناقبِ ، المخصوصُ بأسمى و أعلى المراتب ، و خُصَّ بها تعظيماً لحاله ، و تبيانا لعظيم خصاله ، و كونه ذا الكمال من البَشَر ، و صاحب الجلالِ عند أهل النظر .
و بناؤها على قاعدةِ التأصيل ، المستلزمةِ لمقامه بالتأهيل ، فيما تبناه ابنُ دِحية ، أناله الله كلَّ بُغْيَة ، مسطراً ذاك في " نهايته " (7) ، القاضيةِ بسابقة فضيلته ، فقال مقرراً ، و للحقِّ محرراً ، " لا يجوزُ على خصائصِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم و فضائلِه النسخُ و الاستثناء ، و لا التخصيص و لا النقص ، فإنها لم تزل فضائله صلى الله عليه وسلم تتزايد حتى مات " ، و هذا غايةُ القول بالإثبات .
فيا فلاحَ من لامستْ شغافَ قلبه ، و هنأ بالشوقِ و حبه ، معرفةُ تلك المنائح ، ذات المسك الفائح ، و اهناءة فؤاد المحب ، إذ بالحبيب يَطرب .
و حدا بنا الحادي ، و شدا فينا الشادي ، بعيون الشِّعْر الفريد ، و مليحِ لفظِ القَصِيْد ، مأخوذاً عَن الحِلِّي ، البليغِ المِلِّي :
و حُبِيْتَ في خَمسٍ بِظلِّ غمامةٍ *** لك في الهواجِرِ جِرْمها صيوانُ
و مرَرْت في سَبعٍ بِدَيْرٍ فانْحَنى *** منه الجدارُ و أسلم المِطرانُ
و كذا في خمسٍ و عشرين انْثَنى *** نَسْطورُ منكَ و قلبُه ملآنُ
حتى كملتَ الأربعينَ و أشْرَقَت *** شمسُ النبوةِ و انْجلى التبيانُ
فَرَمَتْ رُجومَ النيِّراتِ رجيْمَها *** و تساقطتْ من خوفِك الأوثانُ
و الأرضُ فاحتْ بالسلامِ عليكَ و الـ *** ـأشجارُ و الأحجارُ و الكُثْبانُ
و أَتَتْ مفاتيحُ الكُنُوْزِ بأسْرِها *** فنهاكَ عنها الزُّهْدُ و العِرفانُ
و نظرْتَ خلْفَك كالإمامِ بخاتَمٍ *** أضحى لديهِ الشكُّ و هو عِيانُ
و غَدَتْ لك الأرْضُ البسيطةُ مسجداً *** فالكلُّ منها للصلاة مكانُ
و نُصِرْتَ بالرُّعْبِ الشديد على العِدى *** و لك الملائكُ في الوغى أعوانُ
و سعى إليك فتى سلامَ مُسلِّماً *** طَوعاً و جاءَ مُسلِّماً سلمانُ
و غَدَتْ تُكلِّمُك الأباعرُ و الظِّبا *** و الضَّبُّ و الثُّعبانُ و السرحانُ
و الجِذْعُ حنَّ إلى عُلاك مُسلِّماً *** و بِبَطْنِ كفِّكَ سبَّح الصَّوّانُ
و هوى إليكَ العِذْقُ ثُمَّ رَدَدْتَهُ *** في نخلةٍ تُزهى به و تُزانُ
و الدوحتانِ وَقْد دعوتَ فأقبلا *** حتى تلاقتْ منهما الأغصانُ
و شَكى إليك الجيشُ مِنْ ظمأٍ بِهِ *** فتفجَّرَتْ بالماءِ منكَ بَنانُ
و رَدَدْتَ عين قتادةَ مِن بعد ما *** ذهبتْ فلم ينظرْ بها إنسانُ
و حكى ذراعُ الشاةِ مُوْدَعَ سُمِّهِ *** حتى كأنَّ العُضْوَ مِنه لسان
و عَرَجْتَ في ظهرِ البُراقِ مجاوز الـ *** ـسبعَ الطباقَ كما يشا الرحمنُ
و البدرُ شُقَّ و أشْرَقَتْ شمسُ الضُّحى *** بَعد الغُرُوْبِ و ما بِها نُقصانُ
و فضيلةٌ شهِد الأنام بحقِّها *** لا يستطيعُ جُحُوْدَها إنسانُ
في الأرضِ ظلَّ اللهِ كُنْتَ و لَمْ يَلُحْ *** في الشمسِ ظِلُّكَ إن حواكَ مكانُ
نُسِخَتْ بِمَظْهَرِكَ المظاهِرُ بعد ما *** نُسِخَتْ بِمِلَّةِ دينِك الأديانُ
و على نُبُوَّتِك المُعَظَّمِ قَدْرُها *** قام الدليلُ و أُوْضِحَ البُرْهانُ
و لو أنني وَفَّيْتَ وَصْفَك حقَّهُ *** فَنِيَ الكلامُ و ضاقتْ الأوزانُ
فعليكَ مِن ربِّ السلامِ سلامُهُ *** و الفضلُ و البركاتُ و الرِّضْوانُ
و الركيزة الثالثة ، التي للشر نافثة ، درايةُ ما له من سيرة ، مما تطيبُ بها السريرة ، حيثُ هي قانونُ أهل المحبة ، و نبراسُ ذوي القُرْبة ، الحاويةُ لجلائل الأسرار ، الباعثةُ حقائق الأنوار ، الجامعةُ لكمال الهدى ، الدافعةُ عن درْب الردى ، المُوَرِّثَةُ العلوم الدقائق ، الشاملةُ لدقيق الحقائق ، الواهبةُِ حُسْنَ التخلُق ، الموصلةُِ لجنان التحقُّق ، فبها يأنسُ المحبون ، و بنورها يستضيءُ السالكون ، جمعتْ كمالاً في جمال ، و حوتْ أقوالاً تتبعها فِعال ، لا يعتريها نقصُ بني آدم ، و الله له خيرُ عاصم ، أنوار جلالها ظاهرة ، و نجومُ سمائها زاهرة ، فهو سيدُ الهداة ، و تاجُ مَن للخير دُعاة ، المُختارُ من الرحمن بحكمته ، المصطفى من الديان برحمته .
و رابعةُ الركائز ، كونه لشميلة الحسن حائز ، و ما حُبِيَ من أخلاقٍ حسان ، مُهذَّبَةٍ بالقرآن ، و صفاتٍ كاملة ، و نعوتٍ فاضلة ، بها استنارتْ أفئدةُ قومٍ فأسلموا ، و استضاءت قلوب مؤمنين فأُنعموا ، إذ " أولى ما صُرِفَتْ إليه العنايةُ ، و جرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضلِ غاية ، فنُّ الشمائلِ المحمديَّة ، المشتملُ على صفاته السَّنِيَّة ، و نعوتِه البهيَّة ، و أخلاقه الزَّكية ، التي هيَ وسيلةٌ إلى امتلاءِ القلبِ بتعظيمه و محبَّتِه ، و ذلك سببٌ لاتِّباعِ هديه و سُنَّتِه ، و وسيلةٌ إلى تعظيم شِرعته و ملته " (8)، لأنه المبعوثُ إلى الأفاق ، ليُتَمِّمَ مكارِمَ الأخلاقِ ، فأخلاقه " أخلاقٌ نبويةٌ ربانيةٌ ، تخلَّقَ إذْ أُمِرَ بالتخلُّق بها من اللهِ تعالى نبيُّه سيدُ البريةِ ، فطوبى لِمن بها من العبادِ تخلَّقَ ، و هنيئاً لمن بأذواقِ معالي معانيها تحقَّق " (9).
و ما أحلا ما خطَّه الفقيه المُحِب ، في أجود ما كُتِب ، في " المنح المكية " ، الكاشفة للغراءِ " الهَمزيَّة " ، حيثُ قال بصدق ، و نطق بحق ، " لَمَّا اجتمعَ فيه صلى الله عليه وسلم من خصال الكمالِ ، و صفاتِ الجلالِ و الجمالِ ما لا يحصرُه أحدٌ ، و لا يُحيطُ به عد أثنى الله عليه في كتابه الكريم فقال الله تعالى { و إنك لعلى خُلُقٍ عظيم } ، فوصفه بالعظيم ، و زاد في المدحةِ بإتيانه بـ ( على ) المُشْعِرَةِ بأنه صلى الله عليه وسلم استعلى في ذلك على معالي الأخلاق ، و استولى عليها ، فلم يَصِلْ إليها مخلوقٌ غيرُه ، وَ وُصِفَ بالعِظَمِ دون الكرم الغالبِ وصفُه به ، لأن كرمَه يُرادُ به السماحةُ و الدماثة "(10) .
و " إذا كانت العقلاء تطمحُ إلى معرفةِ عظماء العالم و كبرائه ، فإنَّ أحقَّ ما يجبُ أن تطمحَ إليه و تطمعَ فيه هو التعرُّفُ إلى سيِّد السادات ، و فخرِ الكائنات ، الذي رفعه اللهُ تعالى أعلى الدرجات ، و رقَّاه فوقَ جميع أهل المراتب و المقامات " .
وَ معرفةُ الأوصاف العظيمة ، و الشمائلِ الكريمة ، يعطي صورةً تنطبعُ في القلب ، و ترتسمُ في مخيَّلَة المُحِب ، كأنه قد رأى محبوبَه ، و نال مطلوبَه ، و بها تحيا القلوبُ و تجول ، و تطربُ الأرواحُ و العقولُ ، و يزدادُ الشوقُ ، و يتحرَّكُ التَّوْقُ ، و كينونةُ ذاك بالتعلُّقِ (11) ، ليَكْتَمِلَ أصلُ التخلُّقِ ، و يُلْهَم القلبُ حُسْنَ التدقيقِ ، في المحبةِ على التَّحْقِيْق .
و حدا بنا الحادي ، و شدا بصوته الشادي ، مُنَغِّماً لأبي مَدْيَن ، ما تقرُّ به الأعيُن :
فلولا معانيكم تراها قلوبنا *** إذا نحنُ أيقاظٌ و في النَّومِ إنْ غِبنا
لمتنا أسىً من بُعدكم و صبابةً *** و لكنَّ في المعنى معانيكمُ معنى
يُحرِّكنا ذكرُ الحديث عنكمُ *** و لولا هواكم في الحشا ما تحرَّكْنا
و كلُّ هذا المديح ، للسيد المليح ، لأن " اللهُ جلَّ و علا كساهُ من نورِ الجلال ، حُلَّةَ المحبَّةِ و الجمالِ ، فكان ما نظرَ إليهِ أحدٌ من الموحدين إلا أفلحَ كلَّ الفلاح ، و ظهر عليه نورُ الحقيقةِ و لاح ، و أُخِذَتْ عنه بعد الجهلِ دقائقُ العلوم ، و صارَ خليفةً أو أميراً في طَيْلَسانِ الأمرِ و النهي المعلوم " (12).
و قد أوسَع الله فيه المِدحَةَ ، و أولاه المِنْحَةَ ، فأشادَ بأعضائه ، و أعظمَ بِحُسْنِ ثنائه ، و في مدحها إشارةٌ لكمالِه ، و تمامِ جمالِه و جلالِه ، فلهذه يكون مدحُ المُدَّاحِ ، فادْرِ هُدِيْتَ يا صاحْ .
فحَدَا فينا الحادي ، و سبانا بصوته الشادي ، مُظْهِراً مقام المدح ، و ما فيه مِن المَنْح :
مَحَتْ " بانتْ سُعادُ " ذُنُوْبَ كَعْبٍ *** و أَعْلَتْ كَعْبَه في كُلِّ نادِ
و ما افتقرَ النبيُّ إلى قَصِيْدٍ *** مُشَبِّبَةً بِبَيْنٍ مِن سُعادِ
و لَكِنْ سُنَّ إسدادُ الأيادي *** فكان إلى المكارِمِ خيرَ هادي
ثُمَّ ساقَنا بِإنشادِه ، أكْرَمَه اللهُ بِحُسْنِ إيفادِه :
فَوَجَدْتُ قَولي لا يَفِيءُ بِذَرَّةٍ *** مِنْ عُشْرِ مِعْشارِ العَطا الرَّباني
مِن أينَ يُعْرِبُ مِقْوَلِي عن حَضْرَةٍ *** عَن مَدْحِها قَدْ كلَّ كُلُّ لِسانِ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَ الكتابُ بِهِ فَمَا *** مِقْدارُ مَدْحِ العالَم الإنساني
فسألْتُ مِن ربي الثباتَ على الذي *** قَدْ خَصَّني و الصِدْقَ في إيماني
و كَما أفادَ القلْبَ سِرَّ تَعَلُّقٍ *** بِحَبِيْبِهِ يُملي بذاكَ جَناني
فأعِيْشُ في ذكرِ الحبيبِ مُنَعَّماً *** بالذكرِ مُنْبَسِطاً جميعَ زماني
و أَفوزُ بِالعُقْبَى برؤيةِ وَجْهِهِ *** و رِضاهُ عني في أجلِّ مكانِ
و خَتمُ الركائز الخَمس ، درايةُ أسماء زَكِيِّ النَّفْس ، و ما وُهِبَ من جميل الأوصاف ، الممنوحة من ذي الألطاف ، فإنه المخصوص بِحُسْنِ مبانيها ، و الموهوبُ بكُنْهِ معانيها ، مُتضَمِّنَةً صِفاتِ الكمال ، مُسْتَلْزِمَةً حقائق الجمال ، و لاختصاص مقامه عند مولاه ، ما من نعمه عليه أضفاه ، فقرَنَ اسم حبيبه باسمه ، ليَبِيْنَ للناسِ كمالُ وَصْفِه وَوَسْمِه ، و أنشد حسَّان الرسالة ، بإقرارِ ذي الجلالة :
و كثَّرَ فيه صفات الكمال لِيَعْظُمَ في النفوس ، و يُدرى مقامه لدى الملك القُدُّوْس ، و أخذ المحبون من أوصاف الحُسْنِ ، أسماءَ تُذهبُ الحُزْن ، لمَّا كانت عوائد العَرب ، تكثيرُ أسماءِ ذوي الرُّتَب ، كما الصنيعُ معَ الأُسْد ، و سيفِ الِهند ، و الخيولِ الأصيلة ، و المنائح الجليلة .
فخذْ المعلومَ بقوَّةٍ ، عن وَسمِ ذي النبوَّةِ ، تكون حاظياً بِفقهٍ دقيق ، بالغاً مقام التحقيق ، و تخلَّقْ بمحاسنِ الأفعال ، تُدرك ذُرى الكمال ، فهذا يا نَقَلَةُ الأخبارِ ما بهِ فُهْتُ ، و لأجله في مقامي قُمتُ ، فأبلغوا أهل الديانة ، بواجب الصيانة ، و الحمايةِ الأكيدة ، لِعرْض ذي الخصال الحميدة ، فلا خيرَ فيهم إذا هنئوا بعيش ، و أسلموا أرواحهم لشرِّ طيش ، و رسول الله مُهانٌ ، في عِرْضه لا يُصان ، فالذبُّ عنه أوجبُ وظيفة ، و لِتُثارَ لأجله حفيظة ، و عذراً لمقامكم أيها الكرام ، فقد تجرأتُ على جنابكم في ذا المقام ، و لكنَّها غَضْبَةٌ بَدَتْ مِنِّي ، و وقفةٌ نأت عنِّي ، و أنتم أهل الصفحْ و المعذرة ، و أرجو من الله المغفرة ، و ختمُ المقامة ، الصلاةُ لذي الكرامة ، و المديحُ الباهر ، من القريضِ الطاهر ، فاعذروني إذ أطلْتُ ، فلا عُذرَ لي إن أقصرْتُ :
صبورٌ شكورٌ مُؤْثِرٌ في خصاصةٍ *** يَبِتْ و يُضْحي ثم يَطوي على خُمْصِ
صفوحٌ حليمٌ لا يؤاخِذُ مَن أسا *** و لا هو مِن جانٍ عليه بِمُقْتَصِّ
صدوقٌ فلمْ ينطقْ مدى الدهرِ عن هوى *** كذلك قال الله في مُحْكم النَّصِّ
صَؤُوْن عن الدنيا مُنيبٌ لربِّهِ *** على كُلِّ ما يُرضي المهيمنَ ذو حِرْصِ
صُنوفُ صفات الرُّسْل حِيْزَت لأحمدٍ *** بتكليمه في حضرةِ القُدسِ بِمُخْتَصِّ
صحيحٌ بأن الفضلَ فيهِ مُجَمَّعٌ *** و مِن عجبٍ أن يُجمع الفضلُ في شخصِ
صدَقْتُ لقد حاز الحبيبُ مناقباً *** تَقاصَر عَن إحصائها كُلُّ مُسْتَقْصِ
صحابتُه لَم تُحْصِ ما خصَّه الله بِهِ *** إلهُ البرايا يا ليت شِعري مَن يُحصِ
صباحٌ و مصباحٌ و نورٌ بدا لنا *** يقُصُّ جناح الكفرِ قصَّاً على قَصِّ
صُفوفاً لديه الخلْقُ تُوْقَفُ في غَدٍ *** فطوبى لِمن يُدني و ويلٌ لِمن يُقْصِ
صِلِي و انقُلي يا نفحةَ الحي و احملي *** سلامي إلى الهادي و أشواقَنا نصِّي
صدوراً طبعناها عليه محبةً *** فجاءت كنقشٍ للخواتم في فَصِّ
صَبا للصِبا صَبٌّ لأحمد قد صَبا *** نسيمَ الصِّبا قُصِّي صبابته قُصِّي
و أثني بالمديح الفصيح ، من الشعر المليح ، و أنتقي ما فاضت به القريحة ، لذي النفس المليحة ، أعني به المُبْدِعَ الصَّفي (13) ، حالفه اللطف الخفي :
أم صارمُ الشرْقِ لمَّا لاح مُخْتَضِباً *** كما بدا السيفُ مُحْمَرَّاً مِن العلَقِ
و مالت القُضْبُ إذْ مرَّ النسيمُ بها *** سَكْرى كما نُبِّهَ الوَسْنانُ مِن أرَقِ
و الغيمُ قَد نُشِرَتْ في الجوِّ بُرْدَتُهُ *** سِتراً تُمَدُّ حواشيهِ على الأفُقِ
و السُّحْبُ تبكي و ثَغْرُ البَرِّ مُبْتَسِمٌ *** و الطيرُ تسجَعُ مِن تِيْهٍ و مِن شَبَقِ
فالطيرُ في طَرَبٍ و السُّحْبُ في حَرَبٍ *** و الماءُ في هربٍ و الغُصْنُ في قلقِ
و عارضُ الأرضِ بالأنوارِ مُكْتَمِلٌ *** قد ضلَّ يشكرُ صَوبَ العارضِ الغَدِقِ
و كلَّلَ الطَلُّ أوراقَ الغُصُوْنِ ضُحى *** كما تكلَّلَ خَدُّ الخَوْدِ بالعَرَقِ
و أطلق الطيرُ فيها سَجْعَ مَنْطِقِهِ *** ما بين مُخْتَلِفٍ منه و مُتَّفِقِ
و الظلُّ يسرُقُ بين الدَّوْحِ خُطوَتَه *** و للمياهِ دبيبٌ غيرُ مُسْتَرَقِ
و قد بدا الورْدُ مُفْتَرَّاً مباسِمُه *** و النَّرْجِسُ الغَضُّ فيها شاخصُ الحَدَقِ
مِن أحمرٍ ساطعٍ أو أخضرٍ نَضِرٍ *** أو أصفرٍ فاقعٍ أو أبيضٍ يَقَقِ
و فاحَ مِن أرَجِ الأزهارِ مُنتشِراً *** نَشْرٌ تعطَّرَ منهُ كلُّ مُنْتَشِقِ
كأنَّ ذكرَ رسول اللهِ مرَّ بِها *** فأكْسِبَتْ أرَجاً مِن نشرِه العَبِقِ
محمدُ المُصطفى الهادي الذي اعتصمتْ *** به الورى فهداهم أوضح الطُرُقِ
و مَن له أخذ اللهُ العُهودَ على *** كلِّ النبيِّيْنَ مِن بادٍ و مُلْتَحِقِ
و مَن رقى في الطِّباقِ السبعِ مَنْزِلَةً *** ما كان قطُّ إليها قبل ذاك رقي
و مَن دنى فتدلَّى نحوَ خالقِهِ *** كقاب قوسين أو أدنى إلى العُنُقِ
و مَن يُقَصِّرُ مَدْحَ المادحينَ لهُ *** عجزاً و يَخْرَسُ ربُّ المنطقِ الذَّلَقِ
و يُعْوِزُ الفِكْرُ فيهِ إن أريدَ له *** وصفٌ و يفضلُ مرآهُ على الحَدَقِ
عُلاً مدَحَ اللهُ العَليُّ بها *** فقال : إنك في كلٍّ على خُلُقِ
يا خاتم الرُّسْلِ بَعثاً و هو أولُها *** فضلاً و فائزها بالسَّبْقِ و السَّبَقِ
جمعتَ كلَّ نفيسٍ مِن فضائلهم *** مِن كلِّ مُجتَمِعٍ منها و مُفْتَرِقِ
و جاءَ في مُحْكَم التوراةِ ذِكرُكَ و الـ *** ـإ نجيلِ و الصُّحُفِ الأُولى لى نَسَقِ
و خصَّك اللهُ بالفضلِ الذي شَهِدَتْ *** به لَعَمْرُك في الفُرقان من طُرُقِ
فالخَلْقُ تُقْسِمُ باسم اللهِ مُخلِصَةً *** و باسمكَ أقسَمَ ربُّ العَرْشِ للصَّدَقِ
لو آمنتْ بك كلُّ الناسِ مُخْلِصَةً *** لم يُخْشَ في البعثِ مِن بَخْسٍ و لا رَهَقِ
لو أن عبداً أطاع الله ثُم أتى *** بِبُغْضِكم كان عند الله غير تقي
لو خالفَتْكَ كُماةُ الجِنِّ عاصيةً *** أرْكَبْتَهم طبقاً في الأرضِ عن طبقِ
لو تُوْدَعُ البِيْضُ عَزْماً تستضيءُ بِهِ *** لَم يُغْنِ منها صِلابُ البيضِ و الدَّرَقِ
لو تجعلُ النَّقْعَ يوم الحَرْبِ مُتَّصِلاً *** بالليلِ ما كشَفَتْهُ غُرَّةُ الفَلَقِ
مهَّدْتَ أقطارَ أرضِ اللهِ مُنْفَتِحاً *** بالبِيْضِ و السُّمْرِ منها كلَّ مُنْغَلِقِ
فالحرْبُ في لُذَذٍ و الشِّرْكُ في عَوَذٍ *** و الدِّيْنُ في نَشَزٍ و الكُفْرُ في نَفَقِ
فضلٌ بِهِ زِيْنةُ الدُّنيا فكان لها *** كالتاجِ للرأسِ أو كالطوْقِ للعُنُقِ
صلى عليك إلهُ العَرْشِ ما طلعتْ *** شمسُ النهارِ ولاحَتْ أنْجُمُ الغَسَقِ
و آلِك الغُرَرِ اللاتي بها عُرِفَتْ *** سُبْلُ الرشادِ فكانت مُهْتدى الغَرَقِ
و صحْبِك النُّجُبِ الصِّيْد الذين جَروا *** إلى المناقِبِ مِن تالٍ و مُسْتَبِقِ
قومٌ متى أضمرتْ نفسُ امريءٍ طرَفاً *** مِن بُغْضِهم كان مِن بعد النَّعيم شَقي
ماذا تقول إذا رُمنا المديحَ وَ قدْ *** شرَّفْتنا بمديحٍ منك مُتَّفَقِ
إن قلتَ في الشعرِ حِكمٌ و البيانُ به *** سحرٌ فرغَّبْتَ فيه كُلَّ ذي فَرَقِ
فكُنتَ بالمدحِ و الإنعامِ مُبْتَدِئاً *** فلو أردْنا جزاءَ البَعْضِ لَم نُطِقِ
فلا أخُلُّ بِعُذْرٍ عن مديحكمُ *** ما دام فِكْرِي لَم يُرْتَ و لَم يُعَقِ
فسوفَ أصفيك مَحْضَ المدح مُجتهداً *** فالخلْقُ تفنى و هذا إن فَنِيْتُ بَقِي
فانبرى لي من صُلحاءِ القوم ، دافعاً عني اللوم ، قائلاً بفصيح ، بلفظ مليح ، مَهلاً هُدِيْتَ الرَّشَد ، و أكرمتَ بالرَّغَد ، فما فاه به لسانك ، قد رُفِعَ به شانك ، فأَبَنْتَ سِرَّ النُّصْرَة ، مُنِحْتَ التحجيلَ و الغُرَّة ، إذ كلٌّ عنه غافل ، و لم يَحظَ منَّا بنائل ، فلا مسلكَ يُنتَهَج ، و لا يُصَوَّبُ المُنْعَرِج ، إلا إذا أقمنا في البواطن ، ميثاقَ النُّصرَةِ الكامن ، و منه يسري إلى الظهور ، تمامُ البُدُوِّ و النشور ، و حين فُقِدْناهُ في السرائر ، أضحى الدين غير ظاهر ، و أهله أصابتهم المَسْكنة ، و أمجادهم لديهم مُمْكِنَة ، فلك الله يجزيك أفضاله ، و يُغدقُ عليك نواله ، و سعدتْ أيامك أُنْسِك ، و صيَّرَ يومك أرفع من أمسك ، و لا أراك مكروهاً ، و لا أوردك مشبوهاً ، و دامت عليك منائحُ العافية ، و لك قطوف الجنة دانية ، و قولك ليس بالإفك ، و كان ختامها مِسك .
فأمليتُ عليه حرفي ، مراعياً حالي و ظرفي ، بأنَّ حالنا في أسى ، لغياب مَن بِهِ يُؤْتَسى ، و ليس لنا في القوم منزلة ، و صِرنا للدنيءِ مَهزلة ، و إننا لنستوجبُ بالنُّصْرَة الظُّهُوْر ، و نستجلِبُ بالذبِّ شاراتِ السُّرُوْر ، و أنهيتُ المقامة باليراع ، حين غروب شمس الإمتاع ، من عاشوراءِ المُعَظَّم ، المنصورِ فيه مُوسى المُكلَّم ، الموافي يَوم الاثنين ، الفضيلِ بِلا مَيْن ، فهذه " مُهْرةٌ " خَيلاءُ ، و تَسُرُّ العيونَ الحوراء ، فتستجلِبَ " إدامةَ النُّضْرَة " ، بأفياءِ " مقامة النُّصْرَة "، بِما جادَ بِهِ عَفْوُ الخاطرِ ، فِي نُصْرَةِ الرسولِ الطاهرِ ، مُتَفَوِّهاً بِها ارْتِجَالاً ، مُخْتَزِلاً لفظها اخْتِزَالاً ، و قَد كان سببُ رَقْمِها ، و باعثُ رَسْمها ، دَمعةٌ حرَّى مِن لُبِّ البصيرةِ ، مُشتاقةً لأنوارِ كواكبَ مُنيرة ، فأنعم بدمعةٍ أفْضَتْ إلى مقامة ، و مقامةٍ تُفضي إلى دار المُقامة .
سائلاً لها القبول ، و الحَظْوَةَ بالمأمول ، و الرعايةَ مِن الذَمِّ ، و الصيانةَ مِنْ سُوءِ الفَهْم ، و الحمدُ لربنا على التَّتِمَّة ، و أسألُه كشْفَ المُلِمَّة ، و الصلواتُ الفاضلة ، على الرحمةِ النازلة .