المدينة النبوية مَهْدُ الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً.. أما بعد:
عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صد قريش لدعوته وعدم استجابتهم لها لجأ إلى عرض الإسلام على القبائل، فقد كانت مكة بلداً فيه الكعبة المشرفة التي يقصدها الناس من كل مكان يحجون بالبيت، فاستغل الفرصة وبدأ بعرض الإسلام على القبائل الوافدة إلى مكة فمنهم، من رده بأقبح رد ومنهم من طمع في الملك… إلخ. وكان يخرج إلى القبائل في الليل، خوفاً من كفار مكة أن يحولوا بينه وبينهم، فخرج ذات ليلة ومعـه أبو بكر وعلي -رضي الله عنهما- فمر على منازل ذهل وشيبان بن ثعلبة وكلمهم عن الإسلام. وأجاب بنو شيبان بأرجى الأجوبة، غير أنهم توقفوا في قبول الإسلام1، ثم مر بعقبة منى فسمع أصوات رجال يتكلمون، فعمدهم حتى لحقهم، وكانوا ستة نفر من شباب يثرب كلهم من الخزرج، وكان من سعادة أهل يثرب أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة أن نبياً من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان، يخرج فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم2.
فلما لحقهم رسول الله قال لهم: (من أنتم)؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: (من موالي اليهود؟) -أي حلفائهم- قالوا: نعم. قال: (أفلا تجلسون أكلمكم؟) قالوا: بلى. فجلسوا معه فشرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله، وتلا عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعض: تعلمون -والله يا قوم- إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته وأسلموا. وكانوا من عقلاء يثرب أنهكتهم الحرب الأهلية التي مضت من قريب، والتي لا يزال لهيبها مستعراً، فأملوا أن تكون دعوته سبباً لوضع الحرب، فقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك).. ولما رجع هؤلاء إلى المدينة حملوا إليها رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فما إن أتى العام القادم إلا جاء اثنا عشر رجلا ًفيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله في العام السابق، اتصل هؤلاء برسول الله عند العقبة بمنى فبايعوه بيعة النساء، أي وفق بيعتهن التي نزلت عند فتح مكة بايعوا على: أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوه في معروف، فمن وفّى منهم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه3. فبايعوه على ذلك. وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي – صلى الله عليه وسلم- مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام إلى يثرب، ليعلم المسلمين فيها شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه السفارة شاباً من شباب الإسلام السابقين الأولين، وهو مصعب بن عمير العبدري – رضي الله عنه -. قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرأهم القرآن، ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين. فكان يسمى (المقرئ) بالمدينـة.
مصعب بن عمير كان من أشرف شباب مكة، ولكنه سبق إلى الإسلام وتخرج عن رسول الله واختاره سفيراً له في المدينة يطيبها بالإسلام. واستطاع الدبلوماسي الأول في المدينة بحكمته وفطانته وذكائه بعد توفيق الله له أن يجر أكبر قيادات الأوس إلى الإسلام، ذلك أن سعد بن زرارة خرج به يوماً يريد دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر، وجلسا على بئر يقال لها بئر مرق، واجتمع إليهما رجال من المسلمين –وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك –فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وأنههما عن أن يأتيا ديارنا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعـب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس أكلمه. وجاء أسيد فوقف عليهما متشتماً وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفائنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن، قال: فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، وفي إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين فقام واغتسل، وطهر ثوبه وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائي رجلاً إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن – سعد بن معاذ – ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه، وهم جلوس في ناديهم فقال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف أسيد على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ فقال: علمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه –وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك فقام سعد مغضباً للذي ذكر له، فأخذ حربته، وخرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتماً، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا سلمة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذه مني، تغشانا في دارنا بما نكره؟ وكان أسعد قال لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد، فقال مصعب لسعد بن معاذ: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ماتكره قال: قد أنصفت، ثم ركز حربته فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال: فعرفنا -والله- في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟.
قال: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين ففعل ذلك، ثم أخذ حربته فأقبل إلى نادي قومه، فلما رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به. فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة إلا رجل واحد وهو الأصيرم تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم ذلك اليوم وقاتل وقتل،لم يسجد لله سجدة فقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: (عمل قليلاً وأجر كثيراً)4 وأقام مصعب في بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تعد دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون5.
لقد أصبح الإسلام تياراً عارماً وقوة كبيرة تسحق الكفر، ولهذا لم يجد رسول الله حرجاً حين سمع تقرير مبعوثه خلال عام من وجوده في المدينـة أن يستجيب للتعبئة المسلحة في بيعة العقبة الثانية بعد التعبئة المطلوبة6، فقد حضر العام المقبل بضع وسبعون نفساً من المسلمين من أهل يثرب، جاؤوا ضمن حجاج قومهم من المشركين. وقد تساءل هؤلاء سراً فيما بينهم: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف. فلما قدموا حدثت بينهم وبين الرسول اتصالات سرية أدت إلى اتفاق الفريقين أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب عند العقبة. وجرت حوارات بينهم وبين العباس عم الرسول وفي الأخير أصروا على مبايعة الرسول على البنود التالية:
– على السمع والطاعة في النشاط والكسل.
– وعلى النفقة في العسر واليسر.
– وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
– وعلى أن ينصروا الرسول إذا قدم إليهم.
– ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم.
– وعلى أن يقوموا لله ولا يخشون في الله لومة لائم.
وتمت البيعـة.. وجعل الرسول منهم اثني عشر نقيباً على أقوامهم فعلمت قريش بتلك البيعة وأدركت خطورتها وعلمت أن الرسول بذلك قد وجد له حصناً حصيناً ودرعاً واقياً فعقدوا اجتماعاً واتفقوا على قتله قبل أن يفر منهم إلى المدينة {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[النمل: 50]، ولكن الله لهم بالمرصاد فقد نجى رسوله وأخزى الكافرين.
يقول الأستاذ محمد سعيد رمضان: يتجلى لدى التأمل فيما سردناه من كيفية بدء إسلام الأنصار أن الله -عز وجل- قد مهد حياة المدينة وبيئتها لقبول الدعوة الإسلامية، وأنه كان في صدور أهل المدينة تهيؤ نفسي لقبول هذا الدين7.
وما إن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلا والمجتمع المدني المسلم مهيئٌ أشد التهيؤ لممارسـة الدعوة والتربية فيه، ولاستقبال رسول الله، فلقد هاجر من مكة إلى المدينة ووصل إليها في يوم الاثنين 8/ ربيع الأول/سنة 14 من الهجرة النبوة- قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فكانوا يفدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنظرون، فثار المسلمون إلى السلاح8.
قال ابن القيم: وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحاً بقدومه، وخرجوا للقائه فتلقوه، وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله والسكينة تغشاه9. قال عروة: فتلقوا رسول الله فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي (وفي نسخة: يجيء) أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله عند ذلك10.
وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يوماً مشهوداً لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، قال أنس رضي الله عنه: إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئاً، ثم يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئاً حتى جاء رسول الله وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه، فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين، فأقبل رسول الله وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى أن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظراً شبيهاً به11، وفي رواية لأحمد قال أنس: فما رأيت يوماً قط أنور ولا أحسن من يوم دخل رسول الله وأبو بكر المدينة. وقال البيهقي عن عائشة يقول: لما قدم رسول الله المدينة جعل النساء والصبيان يقلن:
طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع12
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة والأول أثبت، وأقام بقباء أربعة أيام، الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس –يوم الجمعة- ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار أخواله، فجاؤوا متقلدين سيوفهم، فسار نحـو المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي وكانوا مائة رجل13، وبعد الجمعة دخل المدينة، ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول ويعبر عنها بالمدينة مختصراً. والأنصار لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة، إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل رسول الله عليه. فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة. فكان يقول لهم: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة)، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول فنزل عنها وذلك في بني النجار –أخواله-، وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فأدخله بيته فجعل رسول الله يقول: (المرء مع رحله) وفي رواية عند البخاري، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أي بيوت أهلنا أقرب؟) فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله هذه داري وهذا بابي. قال: (فانطلق فهيئ لنا مقيلاً) قال: قوما على بركة الله)14.
وقامت دولة الإسلام الأولى في الأرض تحف بها ملائكة السماء بعد جهاد ضار مضن استمر ثلاثة عشر عاماً كاملة، وزال ذلك الخوف والقلق من كفار قريش وأذاهم.
وبدأ النبي عليه الصلاة والسلام يؤسس دولة إسلامية قوية فتحت المشارق والمغارب وأوصلت رسالة الله إلى كافة أنحاء المعمورة.
والحمد لله رب العالمين…
1 مختصر سيرة الرسول للنجدي (150-152).
2 زاد المعاد (2/50)، وابن هشام (1/429-541).
3 صحيح البخاري باب وفود الأنصار.
4 البخاري برقم2597.
5 الرحيق المختوم (130-132) .
6 المنهج الحركي للسيرة النبوية لمنير الغضبان (1/159).
7 فقه السيرة (126-127).
8 صحيح البخاري.
9 الرحيق المختوم 155.
10 صحيح البخاري.
11 البداية والنهاية عن الدلائل للبيهقي (3/216).
12 المصدر السابق 3/218 عن البيهقي في الدلائل (2/505-506).
13 صحيح البخاري، وزاد المعاد.
14 صحيح البخاري.