محمد الحامد الحموي وشغفه بالسيرة الشريفة
لقد بلغ رحمه الله من رهافة حسه ودقة شعوره، أن أوصى كل من أراد الحج، ألا يأتي لتوديعه، يخشى رحمه الله ألا يتحمل قلبه هجمات الشوق، ودفقات الحنين .
تركَ حجَّ النفلِ ليسدَّ حاجةَ الناسِ إلى المعلمِ والمفتي
ولقد حج رحمه الله مرة واحدة في حياته، وكان يتمنى الحج والزيارة كل عام، لكن ورعه وتقواه منعاه من تحقيق أعز أمانيه، كان يقول: (كيف أذهب إلى الحج وأترك البلد خالية ليس فيها من يفتيها، ويحل قضاياها الشرعية، بعد أن ذهب معظم العلماء الى الحج؟ كيف أذهب إلى حج النفل، وأترك طلابي في المدرسة، وهم أمانة في عنقي، أُسأل عنهم أمام الله تعالى؟!) ولما أُحيل على التقاعد بطلبه، كان يمني نفسه بالحج والزيارة، ولكن المرض ما أمهله، وقضى رحمه الله، واللوعة تأكل قلبه، وحرقة الشوق تذيب فؤاده .
وَلَعُهُ بالصلاةِ على النبيِّ صلى الله وعليه وسلم
استأذنه أحد المتـيَّمين بحبه من أهالي بيروت، لإقامة مجلس شريف للصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله وعليه وسلم ، فأجاب رحمه الله وهو يعاني آلام المرض في المستشفى: (لو استطعت أن أمر حفظتي – يعني الملائكة الموكلة بحفظه – بالصلاة على النبي صلى الله وعليه وسلم ، لفعلت ) .
وقد يلومني بعضهم، ويدعي أنني خرجت عن نطاق البحث، وتجاوزت الحد . فلا تتسرع يالائمي ولا تعجل، إن الحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله وعليه وسلم لا يمكن أن يكون حديث عقل فقط بل لابد للقلب أن يتحدث مع العقل، وكان سيدي رحمه الله، يتخير من كتب السيرة ما كتب بعقل مؤلفه وقلبه، حتى يتوفر له تحقيق العالِم، وعاطفة المحب الصادق .
درسُ السيرةِ الأسبوعيُّ واندماجُ الأرواحِ والقلوبِ معهُ
اختار لدرس السيرة المسائي كتاب "السيرة النبوية والآثار المحمدية" لمؤلفه السيد "أحمد زيني" المشهور "بدحلان" رحمه الله، وخصص له ليلة كل أسبوع هي ليلة الخميس، وكان رحمه الله يقول، ( هذه ليلة محمد صلى الله وعليه وسلم ) . هذه الليلة كانت أجمل ليالي الاسبوع في جامع السلطان، تلتقي فيها أنوار السيرة الشريفة، مع توجيهات القلب الكبير المتيَّم بحب المصطفى صلى الله وعليه وسلم ، فيفيض النور، ويزداد السرور، وتتلاشى أربعة عشر قرناً من عمر الكون، لتعيش الأرواح والقلوب مع النبي صلى الله وعليه وسلم كأنها ولدت في تلك الساعات، وشهدت معه صلى الله وعليه وسلم تلك المشاهد .
دروسُ سيرةِ الرسولِ صلى الله وعليه وسلم وتأثيرُها الشديدُ في المستشرق الألماني د.رودمان
ان كل من شهد هذه الدروس، لن ينسى حلاوتها، ولن يغيب عن قلبه أنسها، ولنستمع الى مستشرق ألماني يُدعى الدكتور "غونتر رودمان" ، طوف في بلاد العرب من اقصاها الى اقصاها، ومر في تطوافه على حماة، وبقي فيها قرابة شهر، داوم خلال اقامته فيها على دروس سيدي –رحمه الله- الصباحية والمسائية، وبعد انتهاء جولته وعودته الى بلده، كتب رسالة مطولة الى سيدي –رحمه الله- ، وصف له رحلته الى المعاهد العلمية الشرعية في مختلِف البلاد العربية، وسجل له بعض انطباعته عن الاسلام والمسلمين، ومن جملة أقواله في هذه الرسالة: ( وفي الختام أريد انتهاز الفرصة، لأقدم لكم شكري العميق على ضيافتكم الكريمة، التي أتاحت لي التعمق في روح الاسلام الذي أثر على تفكيري كثيراً، وإنني اتذكر دائماً بشوق دروسكم ، وخاصةً مساءً في المسجد .
في هذا المجال ظهرت شخصيتكم الكريمة بوضوح، وانني لن انسى تأثيركم الشديد
-خلال قراءة سيرة الرسول- الذي لمس قلبي، وجعلني ألحظ إيمانكم العميق، وانني أتمنى لمجهودكم كل النجاح، وأرجو لكم التوفيق في إنهاء كتابكم الجديد الذي شهدت تصنيفه ). إ هـ .
وقد تمكن رحمه الله من تقرير السيرة تدريساً عدة مرات، وأراد في آخر حياته تدريس كتاب ( الشفا في حقوق المصطفى صلى الله وعليه وسلم ) للقاضي عياض رحمه الله تعالى ، ولكن المرض عاجله وحال بينه وبين ما يريد، فأوصاني رحمه الله عندما عدته في بيروت وقت وداعه، أن أقرأ في الدرس كتاب الشفا . والحق أن هذا الكتاب من أنفس ما كتب في موضوع السيرة، فما سبقه في ترتيبه وتبويبه أحد وما لحقه، انفرد بتحقيقات علمية كبيرة ما تمكن غيره منها، وهو في الوقت نفسه حديث عالم منزع القلب بحب النبي صلى الله وعليه وسلم أشرقت على كلماته أنوار النبوة ، ولمعت بين سطوره علامات المحبة، رحمك الله يا سيدي ما رأيت مثلك أحداً يعرف أقدار العلماء ، ويدل على مواطن الفضل.
تألُّمه من جهلِ الناسِ بالسيرةِ الشريفةِ وإعراضِهم عنها إلى ما دونها
وكم كان يتألم حين يلمس بين الناس جهلاً بسيرة النبي صلى الله وعليه وسلم ، واعراضاً عن درسها او مدارستها ، وانكبابا منهم على دراسة حياة من لا يصلحون خدماً لنعل النبي صلى الله وعليه وسلم !فلا يملك رحمه الله سوى التألم والتحرق، ولقد عبر عن حرقته هذه بخطب منبرية خصصها لموضوع السيرة الشريفة ، بيّن فيها وجوب تعلمها وتعليمها لجيل الأمة الناشئ ، وكان يذكر الناس بقول سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه لأولاده وهو يعلمهم مغازي النبي صلى الله وعليه وسلم : ( خذوها يابنيَّ ، فإنها شرفكم ) .
لم يعتذرْ حتى في مرضهِ عن درسٍ يخصُّ سيرةَ الرسولِ صلى الله وعليه وسلم
وما كان رحمه الله يعتذر عن محاضرة او خطبة في أي مناسبة تتصل بحياته صلى الله وعليه وسلم . أذكر أنه طُلب منه منذ سنتين ، ان يلقي كلمة في الحفل الرسمي في ذكرى ميلاده صلى الله وعليه وسلم وكانت بوادر العلة التي توفي بها قد بدأت تتعبه، وكثرة الأعمال أخذت ترهقه، فشكا لي رحمه الله كثرة أعماله، وسوء صحته، فقلت له يا سيدي لو اعتذرت عن هذه الكلمة، فكان جوابه رحمه الله:- ( إنني أستحيي من النبي صلى الله وعليه وسلم ، أن ادعى إلى الكلام في ذكرى مولده الشريف، ولا اتكلم فيها شيئاً) وتكلم رحمه الله زهاء الساعة ، وتكلمت معه قلوب الناس ودموعهم .
انتهى بتصرف يسير من كتاب (العلامة المجاهد الشيخ محمد الحامد) تأليف الاستاذ عبد الحميد طهماز حفظه الله . ونقترح الى القارئ العزيز قراءة كتب السيرة التالية:
السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي.
السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للدكتور علي محمد الصلابي.
الرحيق المختوم للمباركفوري .
وغيرها من كتب السيرة الموثقة