التصنيفات
رسول الله و أصحابه الكرام

حجة الوداع – في الاسلام

فُتِحت مكة ، وأتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إبلاغ الرسالة ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، وفرض الله الحج على الناس في أواخر السنة التاسعة من الهجرة ، فالحج أحد أركان الإسلام الخمسة ، قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }(آل عمران: من الآية97) .. وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان ) رواه البخاري .

وقد تعلَّم الناس من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاتهم وصيامهم وأمور حياتهم ، وما يتعلق بهم من عبادات وواجبات ، وبقي أن يعلمهم مناسكهم وكيفية الأداء لشعيرة الحج .

فعزم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الحج وأعلن ذلك ، فتسامع الناس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يريد الحج هذا العام ، فقدم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يحج مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأن يأتم به .

وعُرِفت هذه الحجة في كتب السنة والسيرة بحجة الإسلام ، وحجة البلاغ ، وحجة الوداع لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودع الناس فيها ، حتى قال لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ حين بعثه إلى اليمن في السنة العاشرة ـ التي حج فيها ـ : ( يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا .. ) رواه أحمد .
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أفاض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عرفة وعليه السكينة وأمرنا بالسكينة ، ثم قال : خذوا مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) رواه النسائي ، وفي رواية لمسلم : ( لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه ) .

قال النووي : " فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته – صلى الله عليه وسلم – ، وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه ، وانتهاز الفرصة من ملازمته وتعلم أمور الدين ، وبهذا سُميت حجة الوداع " .

وأجمع الأحاديث الصحيحة في بيان حجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما رواه الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال :
( إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ حاج ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويعمل مثل عمله ، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر ، فأرسلت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كيف أصنع قال : اغتسلي واستثفري(شدي عليكِ) بثوب وأحرمي .
فصلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء ، نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ..
فأهلَّ بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك لبيك ، لا شريك لك ، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك .. وأهلَّ الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليهم شيئا منه ، ولزم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تلبيته .
قال جابر – رضي الله عنه – : لسنا ننوى إلا الحج ـ لسنا نعرف العمرة ـ ، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ، فرمل ثلاثا ومشى أربعا ، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم – عليه السلام ـ فقرأ : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً }(البقرة: من الآية125) ، فجعل المقام بينه وبين البيت ، فكان أبى يقول ـ ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – : كان يقرأ في الركعتين : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } (الإخلاص:1) و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }(الكافرون:1) ، ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ }(البقرة: من الآية158) : أبدأ بما بدأ الله به ..) .

فبدأ بالصفا فرقى عليه ، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره ، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى ، حتى إذا صعدنا مشى ، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا ، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال : لو أنى استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة .

فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله : ألعامنا هذا ، أم لأبد ؟ ، فشبك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أصابعه واحدة في الأخرى وقال : دخلت العمرة في الحج – مرتين – لا ، بل لأبد أبد .

وقدِم علىّ من اليمن بِبُدْن النبيَ – صلى الله عليه وسلم – ، فوجد فاطمة – رضي الله عنها – ممن حلّ ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : إن أبى أمرني بهذا ، قال : فكان على ـ رضي الله عنه ـ يقول بالعراق ، فذهبت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مُحَّرِشا على فاطمة للذي صنعت ، مستفتيا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما ذكرت عنه ، فأخبرته : أنى أنكرت ذلك عليها ، فقال : صدقت ، صدقت ، ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ ، قال : قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ، قال : فإن معي الهدى فلا تحل ، قال : فكان جماعة الهدى الذي قدم به علىّ من اليمن ، والذي أتى به النبي – صلى الله عليه وسلم – مائة – .

قال : فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي – صلى الله عليه وسلم – ومن كان معه هدى . فلما كان يوم التروية توجهوا إلى مِنى فأهلوا بالحج ، وركب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنَمِرة ، فسار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية .

فأجاز رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال : إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع ربانا ، ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله .. فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مُبَرِّح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به ، كتاب الله ، وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون ؟ ، قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد ، اللهم اشهد ـ ثلاث مرات ـ ..

ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصلِّ بينهما شيئا ، ثم ركب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رَحْلِه ، ويقول بيده اليمنى : أيها الناس السكينة ، السكينة .. كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح (يصلى صلاة تطوع) بينهما شيئا ..

ثم اضطجع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى طلع الفجر وصلى الفجر ـ حين تبين له الصبح – بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ، فدعاه وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر(أضاء) جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس ..

وأردف الفضل بن عباس ـ وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ـ ، فلما دفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرت به ظُعُن (نساء) يجرين ، فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يده على وجه الفضل ، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر ، فحول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يده من الشق الآخر على وجه الفضل ، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر .

حتى أتى بطن محسر ، فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات ، يُكَّبر مع كل حصاة منها ـ مثل حصى الخذْف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ، ثم أعطى عليا فنحر ما غَبَر(ما بقي) وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قِدْر فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها .

ثم ركب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال : انزعوا (استقوا) بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، فناولوه دلوا فشرب منه..

وهكذا أدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحج قبيل وفاته ليلحق بالرفيق الأعلى ، فأرى المسلمين مناسكهم ، وأعلمهم ما فرض الله عليهم في حجهم ، من الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، والوقوف بعرفة ، ورمي الجمار ، وما أحِلَّ لهم في حجهم ، وما حرم عليهم ، وأعلمهم بحقوق المسلم ، وأنه محرم الدم والمال والعِرض ، وأكد على حرمة الظلم والربا وكل عادات الجاهلية .. وكذلك أوصى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنساء ، والقيام بحقوقهن ، وأكد على حق الزوج على زوجته ..

ثم كانت وصيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته التمسك بكتاب ربها والاعتصام به ، فهو سبيل العزة والهداية .. فكم حاجة المسلمين ـ بل البشرية ـ اليوم ماسة ، إلى الاهتداء بهدي ووصايا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أرسله الله رحمة للعالمين ..

موقع مقالات اسلام ويب

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هنا
سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.