الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبداية لابد من التنبه إلى أن ما روي عن السلف في تفسير القرآن وأخبار التاريخ، ولاسيما ما كان مأخوذا عن أهل الكتاب، ليس له حكم ما ثبت بالقرآن أو بالسنة النبوية، ومبنى إشكال السائل الكريم على ثلاث مقدمات، الأولى: كون القرون العشرة بين آدم ونوح كانوا على الإيمان. والثانية: كون إدريس بعث قبل نوح عليهما السلام. والثالثة: كون الشرك أو الكفر قد ظهر في عهد إدريس.
وهذه المقدمات الثلاثة محل خلاف بين أهل العلم. وليس فيها ولو مقدمة واحدة ثابتة بالكتاب أو بالسنة. والذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو تحديد المدة الزمنية بين آدم ونوح، حيث حددها النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة قرون. كما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة، وصححه ابن كثير على شرط مسلم، وصححه الألباني.
وأما كون هذه القرون كانت على التوحيد، فهذا قد اختلف فيه حتى عن ابن عباس نفسه، بناء على المقصود بقوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً {البقرة: 213}
قال ابن الجوزي في (زاد المسير): في المراد بالناس هاهنا ثلاثة أقوال، أحدها: جميع بني آدم، وهو قول الجمهور. والثاني: آدم وحده، قاله مجاهد .. والثالث: آدم وأولاده كانوا على الحق فاختلفوا حين قتل قابيل وهابيل، ذكره ابن الأنباري. والأمة هاهنا الصنف، والواحد على مقصد واحد، وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان، أحدهما: أنه الإسلام، قاله أبي بن كعب وقتادة والسدي ومقاتل. والثاني: أنه الكفر، رواه عطية عن ابن عباس. ومتى كان ذلك؟ فيه خمسة أقوال، أحدها: أنه حين عرضوا على آدم وأقروا بالعبودية، قاله أبي بن كعب. والثاني: في عهد إبراهيم كانوا كفارا، قاله ابن عباس. والثالث: بين آدم و نوح، وهو قول قتادة. والرابع: حين ركبوا السفينة كانوا على الحق، قاله مقاتل. والخامس: في عهد آدم، ذكره ابن الانباري هـ.
وقال الطبري: وجائز أن يكون كان ذلك حين عرض على آدم خلقه. وجائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك، ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أي هذه الأوقات كان ذلك. فغير جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياء والرسل. ولا يضرنا الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعنا العلم به، إذا لم يكن العلم به لله طاعة هـ.
وأما المقدمة الثانية، وهي كون إدريس بعث قبل نوح عليهما السلام، فهي أيضا محل خلاف بين أهل العلم، فقد قال البخاري في صحيحه في ترجمة إلياس من كتاب أحاديث الأنبياء: يذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس اهـ.
وقال ابن حجر: أخذ أبو بكر بن العربي من هذا أن إدريس لم يكن جدا لنوح وإنما هو من بني إسرائيل؛ لأن إلياس قد ورد أنه من بني إسرائيل، واستدل على ذلك بقوله عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح" ولو كان من أجداده لقال له كما قال له آدم وإبراهيم"والابن الصالح". وهو استدلال جيد إلا أنه قد يجاب عنه بأنه قال ذلك على سبيل التواضع والتلطف فليس ذلك نصا فيما زعم. اهـ.
وقال المازري في (المعلم بفوائد مسلم) في شرح قول آدم في حديث الشفاعة المتفق عليه: ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله". قال : ذكر المؤرخون أن إدريس جدُّ نوح عليهما السلام، فإن قام الدليل على أن إدريس بعث أيضا لم يصح قول النسابين أنه قبل نوح؛ لما أخبر به صلى الله عليه وسلم من قول آدم: إن نوحا أول رسول بعث. وإن لم يقم دليل جاز ما قالوا. وصح أن يُحمل ذلك على أن إدريس كان نبيا غير مرسل هـ.
وأما المقدمة الثالثة، وهي كون الشرك قد ظهر في عهد إدريس. فهذا مما لا يمكن القطع فيه بإثبات أو نفي، وغاية ما يذكر في ذلك إنما هي أقوال مأخوذة من أهل الكتاب، سواء في وصف قوم إدريس أو في وصف قوم نوح، ومن ذلك ما ذكره غير واحد من المفسرين أن إدريس عليه السلام هو أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار، ذكره البغوي والخازن وابن عادل والبقاعي والخطيب الشربيني، وقال الماوردي في (النكت والعيون): حكى ابن الأزهر عن وهب بن منبه أن إدريس أول من اتخذ السلاح وجاهد في سبيل الله وسبى اهـ. وقال العز بن عبد السلام في تفسيره: هو أول من اتخذ السلاح وجاهد في سبيل الله تعالى وقتل بني قابيل هـ.
وقال القاضي عياض في (إكمال المعلم): قد يُجمعُ بين هذا بأن يُقال: اختص بعث نوح لأهل الأرض، كما قال في الحديث: "كافة" كنبينا صلى الله عليه وسلم، ويكون إدريس لقومه كموسى وهود وصالح ولوط وغيرهم … وبمثل هذا أيضا يسقط الاعتراض بآدم وشيث ورسالتهما إلى من معهما، وإن كانا رسولين، فإن آدم إنما أرسل لبنيه ولم يكونوا كفارا، بل أمر بتعليمهم الإيمان والتوحيد وطاعة الله، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم، بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض. هـ.
وقال الخرشي في (شرح مختصر خليل): فائدة: أول الرسل آدم، وأول نبي بعثه الله في الأرض إدريس، وأول الرسل نوح .. ولا تعارض بين العبارتين. أما آدم أرسله الله إلى أولاده ليعلمهم ويهديهم إلى ما أمر الله به فكان أول رسول، وأما نوح فهو أول رسول إلى الكفار هـ.
وقال العدوي في شرحه: قوله "أول الرسل آدم" أي على الإطلاق. وقوله "وأول نبي بعثه الله في الأرض" أي بعد شيث … وقوله "وأول الرسل نوح" أي بعد إدريس، وأما قول الشارح: ولا تعارض بين العبارتين. فلم أفهمه؛ وذلك لأنه سكت عن إدريس مع أنه نبي ورسول، وقد قال فيه "وأول نبي بعثه الله في الأرض إدريس" وأيضا فقد ذكر المفسرون الخازن والخطيب أن إدريس أول من قاتل الكفار. والظاهر أنه إنما قاتلهم لكونهم لم يؤمنوا به، فإذن يكون مرسلا إليهم، فلعل الأظهر ما قلنا أخذته من قول القسطلاني في شأن إدريس وكان إدريس أول نبي أعطي النبوة بعد آدم وشيث وفي شأن نوح ، وهو أول نبي بعثه الله بعد إدريس. أو نقول: وأول الرسل نوح أي بتحريم البنات والعمات والخالات، نقله عن القرطبي هـ.
والخلاصة أن ما ذكر في ذلك لا يعدو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: هذا ونحوه منقول عمن ينقل الأحاديث الإسرائيلية ونحوها من أحاديث الأنبياء المتقدمين، مثل وهب بن مُنَبِّه وكعب الأحبار ومالك بن دينار ومحمد بن إسحاق وغيرهم، وقد أجمع المسلمون على أن ما ينقله هؤلاء عن الأنبياء المتقدمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين، إلا إذا ثبت ذلك بنقل متواتر، أو أن يكون منقولا عن خاتم المرسلين هـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 78049 ، 107586 ، 78043 ، 130602.
والله أعلم.
اسلام ويب