عبد الله بن أم مكتوم الكفيف المبصر
حياته وإسلامه: أيها الأخوة، مع صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابي اليوم هو الصحابي الذي عُوتب فيه النبي عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سموات من قِبَل الله عز وجل، إنه عبد الله بن أم مكتوم، وقصة هذا الصحابي لها ملابسات كثيرة، ولا بد من توضيح بعضها، لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما هو ثابت في العقيدة معصوم عن الخطأ. فهذا الذي نزل في شأنه قرآن يُتلى إلى يوم القيامة، نزل به جبريل الأمين على قلب النبي عليه الصلاة والسلام بوحي من عند الله، إنه عبد الله بن أم مكتوم، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن أم مكتوم قرشيٌّ مكيٌّ، من مكة المكرمة، فهو مهاجر، تربطه بالرسول صلى الله عليه وسلم رحم، فهو قريب من أقرباء النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان ابن خال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها، أما أبوه فقيس بن زائد، وأما أمه فعاتكة بنت عبد الله، وقد دُعيت بأم مكتوم، لأنها ولدته أعمى مكتوماً. شهد عبد الله بن أم مكتوم مطلع النور في مكة، فشرح الله له صدره للإيمان، وكان من السابقين إلى الإسلام، بالمناسبة فالسابق ليس كغير السابق، الإنسان إذا دُعِي إلى الله فاستجاب في وقت مبكِّر، فهذا له نهاية متألقة، أمّا الذي يستجيب لله ورسوله بعد فوات الأوان، أو قبيل الموت، أو بعد سن الشيخوخة، أو بعد أن ينفض يديه من الحياة، وبعد أن يمل الحياة، فهذا له حساب ليس كحساب السابق، والذي يأتي ربه شاباً في عنفوان الشباب، متألقاً قوياً تغلي الشهوات في صدره، هذا له حساب وذاك له حساب، والله سبحانه وتعالى أخبرنا فقال: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [سورة آل عمران الآية: 113] من أسلم في وقت مبكر فله حساب خاص، الإسلام حينما ينتصر فالذين يعتنقونه هم منتفعون، أما حينما يكون الإسلام في ضعفه الذين يعتنقونه هم أصحاب المبادئ، هم المجاهدون، هذا الصحابي الجليل عاش محنة المسلمين في مكة بكل ما حفلت به من تضحية وثبات وصمود وفداء، وعانى من قريش ما عاناه أصحابه، وبلى من بطشهم وقسوتهم ما بلوه، فما لانت له قناة، والشيء الغريب أن بعض المحن تزيد المؤمن إيماناً، وتزيده تمسكاً، وتزيده تعلقاً، وتزيده التزاماً، وتزيده إقبالاً، وتزيده صبراً، وتزيده صلابةً، وهكذا فليكن المؤمن. النبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة، في أشد أوقات المحن، في أصعب أيام الدعوة، عُرض عليه أن يكون أمير مكة، عُرض عليه أن يكون زوجاً لأجمل فتاة في مكة، عُرض عليه ليكون أغنى شباب أهل مكة، قال: والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه إذاً: قيمة الإنسان في ثباته على المبدأ، قيمة الإنسان أنه إذا عاهد الله عز وجل فقد حسمَ الأمر، أما هذا الذي يقدِّم ويؤخِّر، يتقدم ويتراجع، ينطلق ويقف، يتردد، فالذي يفعل هذا لن يصل إلى شيء. إقبال ابن أم مكتوم على رسول الله: أيها الأخوة، وقد بلغ من إقباله على النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصه على حفظ القرآن الكريم، أنه كان لا يترك فرصة إلا اغتنمها، ولا سانحة إلا ابتدرها، يعني حريص على أن يلتقي بالنبي عليه الصلاة والسلام حرصاً لا حدود له، والحقيقة أنّ الإنسان حينما يحرص على أن يلتقي بأهل الحق، على أن يلتقي بالمؤمنين، على أن يتواجد في بيوت الله، أن يكون معهم في السراء والضراء، أن يكون في مجالسهم، أن يكون في معاونتهم، فهذا الإنسان صادق الإيمان. بل إن هذا الصحابي الجليل، عبد الله بن أم مكتوم بلغ من حرصه على لقاء النبي عليه الصلاة والسلام مبلغاً كبيراً، فكان إلحاحه على أن يكون مع النبي عليه الصلاة والسلام يحمله أحياناً على أن يأخذ نصيبه من النبي عليه الصلاة والسلام ونصيب غيره، عنده رغبة قوية جداً أن يكون مع النبي دائماً، وهذه علامة إيمان. هناك إنسان لا ترتاح نفسه إلا مع المؤمنين، لا ترتاح نفسه إلا مع أهل الحق، وبالمقابل هناك علامة خطيرة، عندما يجلس الإنسانُ مع أهل الفسق والفجور، أو مع أهل الدنيا، أو مع المقطوعين عن الله عز وجل ويرتاح إليهم، ويقيم معهم علاقات حميمة، وينسى واجباته الدينية، هذه علامة خطيرة جداً، وتدلُّ على أنّ الإنسان هش المقاومة، ضعيف الإرادة، ولذلك جاء الأمر الإلهي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [سورة التوبة الآية: 119] العجيب أننا فهمنا الأوامر خمسة: الصلاة والصوم والحج والزكاة والنطق بالشهادتين، مع أن الأوامر القرآنية كثيرة جداً، وهذا أحد الأوامر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [سورة التوبة الآية: 119] أنت مع مَن؟ مَن الذي يعجبك؟ من الذي تركن إليه؟ من الذي ترتاح نفسك إليه؟. الشبهة التي لصقت بالنبي بحق ابن أم مكتوم: كان عليه الصلاة والسلام في هذه الفترة يمر بمحنة عصيبة، فكان عليه الصلاة والسلام كثير التصدي لسادات قريش، الآن بدأ الإيضاحُ التفسير، يبدو أمامي بابان كبيران لهذا المسجد، لو أن الدرس انتهى وانطلقتم للخروج من هذا المسجد، وأمامكم بابان، وليس هناك أي إعلان يمنعكم من الخروج من أحدهما، فإذا خرج أحدكم من الباب اليميني هل يعد عاصياً؟ وإذا خرج أحدكم من الباب اليساري هل يُعد عاصيًا؟ ماذا أريد أن أقول؟. أريد أن أقول: إنه لا معصية قبل التكليف، ما دام ثمة مانع فالأمر مباح، لو أنه كُتب على الباب الشمالي ممنوع الخروج من هذا الباب، ثم خرج إنسان منه فيكون متلبساً بمعصية، لكن البابان متشابهان، وليس هناك أي إعلان، ولا أي توجيه، ولا أي حظر، ولا أي منع، ولا أي إجبار، بابان متشابهان متساويان، انتهى الدرس، وصلينا العشاء، وانتهت الصلاة، وانطلقنا إلى بيوتنا، فهل بإمكان أحد أن يقول لواحد منكم: أنت لماذا خالفت، لماذا عصيت؟ فتجيبه: أنا عصيت مَن؟ ما الأمر الذي عصيته؟ أين الحظر الذي تجاوزته؟ أين المنع الذي اخترقته؟ أجبني، لكن لا جواب لديه، هؤلاء الذين يطعنون في قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) [سورة عبس الآية: 1-2] هل هناك حكم إلهي؟ هل هناك تشريع؟ هل هناك توجيه ما؟ هل تصدقون أن النبي عليه الصلاة والسلام اختار أصعب الأمور بدافع حبه لله عز وجل؟ بربكم لو أن أحدكم دُعي إلى سهرة مع بعض أخوانه المحبين جداً، ودُعي إلى سهرة أخرى في اليوم نفسه مع أناس ملحدين منكرين فسقة فجار، الذين يتمنون أن يأكلوا وينهشوا لحم المؤمن، بربك أيها الأخ الكريم أي مجلس ترتاح له، وأي مجلس أهون عليك؟ أن تجلس مع أخوانك المحبين. فالنبي عليه الصلاة والسلام إن جلس مع عبد الله بن أم مكتوم، ذلك الصحابي الجليل المحب العاشق، الذي يتمنى ألاَّ يفارق النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا أَحبُّ إليه، وأيهما أهون على النبي، أن يجلس مع عبد الله بن أم مكتوم، أم أن يجلس مع زعماء الكفر والفسق؟ وماذا اختار النبي؟ اختار الأصعب، اختار الأشق حباً بالله عز وجل، لأنه انطلق من أن هؤلاء الزعماء الأقوياء الأشداء إذا أسلموا أسلم معهم أناس كثيرون، لأن الناس دائماً تابعون ومتبوعون، ولكل بلدة كبراء، والكبراء ماذا يفعلون؟ أي شيء يفعلونه يقلدهم الناس فيه، فأنت إذا دعوت إلى الله، وتمكنت أن تقنع كبيراً بطريق الحق، فهذا الزعيم الكبير معه أتباع كثيرون، فالنبي عليه الصلاة والسلام، ليس هناك تشريع يمنعه، وليس هناك مانع يصدُّه، وليس هناك حظر، وليس هناك شيء يمكن أن يُعد مخالفة لما فعل. جاءه ابن أم مكتوم، وكان النبي مع زعماء قريش، وإنْ صحّ التشبيه أسوق هذا المثَل، أنت مدرس رياضيات، وابنك في البيت، وأنت في لقاء مهم خطير، وأنت منهمك في إقناع هؤلاء الذين في غرفة الضيوف، فدخل عليك ابنك لتحل له مسألة في الرياضيات، فماذا تقول له؟ انتظر قليلاً، أنا لك اليوم كله، دعني الآن وشأني، هذا الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن أم مكتوم. وقد كان عليه الصلاة والسلام في هذه الفترة كثير التصدي لسادات قريش، شديد الحرص على إسلامهم، فالتقى ذات يوم بعتبة بن ربيعة، وأخيه شيبة بن ربيعة، وعمرو بن هشام المكنى بأبي جهل، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وطفق يفاوضهم ويناجيهم ويعرض عليهم الإسلام، وهو يطمع أن يستجيبوا له، أو أن يكفوا أذاهم عن أصحابه، إذاً: النبي كان في مهمة مقدسة عظيمة، وهذه الحادثة تزيدنا حباً برسول الله، هذه القصة تزيدنا إكباراً له، تعظيماً لشأنه لمقامه العالي لأنه اختار الأصعب. يعني إذا أب مثلاً رأى ابنه يدرس الساعة التاسعة، فاستلقى الأب في فراشه، واستيقظ الساعة الواحدة ورآه يدرس، ثم عاد إلى النوم الساعة، واستيقظ الساعة الثالثة استيقظ فرآه يدرس، فقد يغضب الأب من ابنه، فهل يعتب عليه أم يعتب له؟ فرق دقيق بين من يعتب على إنسان وبين من يعتب له، يقول له: يا بني لا بد أن تستريح، إن لجسدك عليك حقاً، هذه معاتبة، ولكن هذه ليست عتابًا عليه، بل عتاب له، وشتان بين العتابين. طفق النبي يشرح لهم ويبيِّن ويوضح ويتلو عليهم آيات القرآن فلعلهم يسلمون، فإن أسلموا أسلم معهم خلق كثير، وإن اقتنعوا بالإسلام ولم يسلموا فلعلهم يكفون أذاهم عن أصحابه، وفيما هو كذلك أقبل عليه عبد الله بن أم مكتوم، وكان كفيف البصر. أحياناً يدرك الإنسان الموقف بعينيه، ولكن لا يرى مَن عنده، طرق الباب يا رسول الله، علمني مما علمك الله، النبي رأى أن هذا الوقت غير مناسب، وبإمكانه أن يأتي في أي وقت يشاء غير هذا، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام يستقرؤه آية من كتاب الله، ويقول: يا رسول الله علمني مما علمك الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يعرض عنه ويعبس في وجهه، ثم يتولى نحو أولئك النفر من قريش، وأقبل عليهم أملاً في أن يسلموا، فيكون في إسلامهم عز لدين الله، وتأييد لدعوة رسول الله، وما إن قضى رسول الله حديثه معهم وفرغ من نجواهم، وهمَّ أن ينقلب إلى أهله حتى أمسك الله عليه بعضاً من بصره، وأحس أن شيئاً يخفق برأسه، ثم جاء الوحي، ونزل عليه قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) [سورة عبس الآية: 1-2] فالله جل جلاله يبيِّن للنبي عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء السادة الكبراء لا خير فيهم، هذا علمُ الله، وهو عليه السلام يتوسم فيهم الخير، ويعلق آمالاً على هدايتهم، لكنّ اللهَ عز وجل لأنه خالقهم وهو الذي يعلم، قال له: يا محمد هؤلاء ليس فيهم خير، فلا تشغل بالك بهم، إنك لا تستطيع أن تهديهم لأنهم مخيرون، فإن الله يهدي من يشاء، هناك آيتان، قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [سورة القصص الآية: 56] أي إنك لا تستطيع هدايتهم، والآية الثانية: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [سورة البقرة الآية: 272] لست مسؤولاً عن هدايتهم، لأنهم مخيرون، هم اختاروا الدنيا، هم اختاروا الإعراض، هم اختاروا الشرك، الله عز وجل وصف وبيّن وصف حال النبي، وبيّن له أنه الإله الذي يعلم. يعني أحياناً يرى الإنسانُ رمادًا، يظن أن في هذا الرماد ناراً، فينفخ ويقول له إنسان آخر: لا تتعب نفسك، إنك تنفخ في رماد، وصدق القائل: لقد أسمعت لو ناديت حيــًّـا***ولكن لا حياة لمن تنـــادي ولو نارًا نفخت فيها أضـاءت***ولكنك تنفخ في رمـــــادِ الله يعلم، وبعلمه وخبرته أخبر النبيَّ أن هؤلاء الكفار الصناديد زعماء الشرك، رؤوس الفتنة، عباد الأوثان لا خير فيهم، فلا تعلِّقْ أملك عليهم، ولا تلتفت إليهم، فليسوا أهلاً لاهتمامك، بل التفتْ لهذا الأعمى الفقير الذي يصغي لكلامك، بربكم هل في هذا السلوك الذي فعله النبي نقص في حقه؟ هل فيه مخالفة لأمر إلهي؟ هل فيه معصية؟ هل فيه خرق لحظر؟ أبداً، هكذا ينبغي أن نفهم القرآن الكريم، الله عز وجل وصف حال النبي، وبين له أن هؤلاء الذين تحرص عليهم لا حياة لمن تنادي. قال العلماء: ست عشرة آية نزل بها جبريل الأمين على قلب النبي عليه الصلاة والسلام في شأن عبد الله بن أم مكتوم، لا تزال تُتلى منذ نُزلت إلى اليوم، وسوف تظل تتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فالمعنى أنّ هذا درس لنا إلى يوم القيامة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ [أخرجه الترمذي في سننه عن أنس بن مالك] هؤلاء الأقوياء، هؤلاء الأغنياء المنحرفون عن طريق الحق، لا تعجبك أجسامهم ولا أموالهم، إنما يريد الله ليعذبهم في الحياة الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون، هكذا وجَّه الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام. ومنذ ذلك اليوم ما فتئ النبي عليه الصلاة والسلام يكرم منزل عبد الله بن أم مكتوم إذا نزل، ويدني مجلسه إذا أقبل، ويسأل عن شأنه ويقضي حاجته، ولا غرو أليس هو الذي عوتب فيه من فوق سبع سموات من قبل المولى جل وعلا؟. هجرة ابن أم مكتوم إلى المدينة: لما قستْ قريش على النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، واشتد أذاها لهم، أذن الله للمسلمين بالهجرة، فكان عبد الله بن أم مكتوم، أسرع القوم مفارقة لوطنه وفراراً بدينه، فقد كان هو ومصعب بن عمير أول من قدما المدينة من أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم. وما إن بلغ عبد الله بن أم مكتوم يثرب حتى طفق هو وصاحبه مصعب بن عمير يختلفان إلى الناس ويقرئانهم القرآن ويفقهانهم في دين الله، ولما قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة اتخذ عبد الله بن أم مكتوم، وبلال بن رباح مؤذنين للمسلمين يصدعان بكلمة التوحيد كل يوم خمس مرات. كان بلال يؤذن، وابن أم مكتوم يقيم الصلاة، وربما أذن ابن أم مكتوم، وأقام بلال الصلاة، ولكن بعد حين وجَّه النبي عليه الصلاة والسلام أن الذي يؤذن هو الذي يقيم الصلاة، وكان لبلال وابن أم مكتوم شأن آخر في رمضان، فقد كان المسلمون في المدينة يتسحرون على أذان أحدهما، ويمسكون عند أذان الآخر، فقد كان بلال رضي الله عنه يؤذن بالليل ويوقظ الناس، وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يُخطئه. وقد بلغ من إكرام النبي عليه الصلاة والسلام لابن أم مكتوم أن استخلفه على المدينة عند غيابه عنها بضع عشرة مرة، كانت إحداها يوم غادرها لفتح مكة، فكان النبي كلما غادر المدينة غازياً أو فاتحاً استخلف عليها أميراً هو عبد الله بن أم مكتوم، وهذه مرتبة عالية جداً، أن يختار النبي هذا الصحابي الجليل نائباً عنه في إدارة شؤون المدينة في غيابه. الله يعذره: في أعقاب غزوة بدر أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن ما يرفع شأن المجاهدين أيّما رفعة، يفضلهم على القاعدين، لينشط المجاهد إلى الجهاد، ويأنف القاعد من القعود، فأثّر ذلك في نفس ابن أم مكتوم وعز عليه أن يُحرم من ذلك الفضل، وقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، ثم سأل الله بقلب خاشع أن ينزل القرآن في شأنه وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد، لقد رأى الجهاد شيئًا عظيمًا، وهو ذروة سنام الإسلام، فهو بحكم عاهته إذْ فَقَدَ بصره محرومٌ من هذه العبادة العظيمة، فكان يتألم وكان يبكي، وكان يسأل النبي عليه الصلاة والسلام، أن يسأل ربه أن ينزل قرآنًا في شأن ابن أم مكتوم المعذور، وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد وجعل يدعو في ضراعة: اللهم أنزل عذري، اللهم أنزل عذري، فما أسرع أن استجاب الله لدعائه حدث زيد بن ثابت كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت إلى جنب الرسول صلى الله عليه وسلم، فغشيته السكينة، ونزل عليه الوحي، فلما سُرِيَ عنه، قال: اكتب يا زيد، فكتبت: (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين) [سورة النساء الآية: 95] فقام ابن أم مكتوم، وقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ قال: فما انقضى كلامه حتى غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة، ولما سُري عنه، يعني جاءه الوحي مرة ثانية، قال: اقرأ ما كتبته يا زيد، فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال: اكتب (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [سورة النساء الآية: 95] فصار في الآية استثناء، هؤلاء أولو الضرر مستثنون بهذه الآية، فكأن هذا الصحابي الجليل بصدقه وإخلاصه وتمنيه، أن ينزل الله به وبأمثاله المعذورين ما يبرر قعودهم، فاستجاب الله له، ونزلت هذه الآية التي جاءت بعد الآية الأولى. الآن دققوا، وعلى الرغم من أن الله سبحانه وتعالى أعفى عبد الله بن أم مكتوم، وأمثاله من الجهاد، فقد أبت نفسه الطموح أن يقعد مع القاعدين، وعقد العزم أن يكون مع المجاهدين، ذلك بأن النفوس الكبيرة لا تقنع إلا بعظام الأمور فحرص منذ ذلك اليوم على ألاَّ تفوته غزوة مع أنه أعمى، مع أنه ضرير، وحدَّد لنفسه وظيفتها في ساحات القتال فكان يقول: أقيموني بين الصفين، وحمَّلوني اللواء أحمله لكم وأحفظه، فأنا أعمى لا أستطيع الفرار كانوا يقيمونه بين الصفين، ويحمِّلونه اللواء ويجاهد. استشهاده : في السنة الرابعة عشرة للهجرة، عقد عمر بن الخطاب العزم على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة تزيل دولتهم وتزيل ملكهم، وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين، فكتب إلى عماله يقول: لا تَدَعُوا أحداً له سلاح، أو فرس، أو نجدة، أو رأي، إلا وجهتموه إليه، والعَجَلَ العَجَلَ وطفقت جموع المسلمين تلبي نداء الفاروق، وتنهال على المدينة من كل حدب وصوب، وكان في جملة هؤلاء المجاهدين المكفوف البصر عبد الله بن أم مكتوم. فأمَّر الفاروق على الجيش الكبير سعد بن أبي وقاص، ووصاه وودعه، ولما بلغ الجيش القادسية، برز عبد الله بن أم مكتوم لابساً درعه مستكملاً عدته، وندب نفسه لحمل راية المسلمين، والحفاظ عليها أو الموت دونها، والتقى الجمعان في أيام ثلاثة قاسية عابسة، واحترب الفريقان حرباً لم يشهد لها تاريخ الفتوح مثيلاً، حتى انجلى الموقف في اليوم الثالث عن نصر مؤزر للمسلمين، فزالت دولة من أعظم الدول، وزال عرش من أعرق العروش، ورُفعت راية التوحيد في أرض الوثنية، وكان ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء، وكان من بين هؤلاء الشهداء عبد الله بن أم مكتوم، فقد وجد صريعاً مضرجاً بدمائه، وهو يعانق راية المسلمين. دققوا أيها الأخوة، صحابي جليل وهو كفيف البصر، يستشهد في أرض معركة حامية الوطيس، هكذا كان أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم، هذه القصة سقتها إليكم من أجل أن تقفوا على دقائقها لأن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم في أقواله وأفعاله وأحواله، وما سورة عبس وتولى إلا وصفٌ لشأن النبي، حيث انطلق من رغبته الصادقة في هداية قومه. والحمد الله رب العالمين
|