معركة بدر هي أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين، كان له أعظم الأثر في قوة شوكة المسلمين وعزهم وكرامتهم، كما أنه كان سبباً لحقد جهات متعددة .. إذ أصبح المشركون والمنافقون يبحثون عن أية فرصة تمكنهم من إلحاق الأذى بالمسلمين، ومن ثم أصبحت الدولة المسلمة الجديدة أمام أوضاع من التحالفات والمكر والكيد الكثير، ولكن تأييد الله تعالى ثم حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحسن قيادته أفشل مخططات أعداء الإسلام في مهدها، فكلما هَمَّ الأعداء بمهاجمة المدينة خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمواجهتهم ..
ولأهمية غزوات وسرايا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يتواصون بتعلمها وتعليمها لأبنائهم، فكان علي بن الحسين ـ رضي الله عنه ـ يقول: " كنا نُعلَّم مغازي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما نعلم السورة من القرآن ".
وقد تعددت المواجهات والغزوات بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمشركين بعد معركة بدر وقبل أحد، فمنها :
غزوة بني سليم :
كانت في شوال من السنة الثانية للهجرة، بعد غزوة بدر بسبعة أيام، حيث انتهزت بعض القبائل حول المدينة فرصة انشغال المسلمين في حربهم مع المشركين، فأرادت أن تشن الحرب عليهم في ديارهم، فوصلت الأخبار إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن بني سليم من قبائل غطفان حشدت قواتها لغزو المدينة، فبادرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسار إليهم في مائتي راكب، وعندما وصل المسلمون منازل بني سليم في موضع يقال له: الكُدْر، وهو موضع في بلاد بني عامر بن صعصعة، فرّ بنو سليم، وتركوا في الوادي خمسمائة بعير أخذها المسلمون غنيمة، وقسمها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المجاهدين بعد إخراج الخُمس، فكان نصيب كل رجل بعيرين، ولم يكن هناك أسرى سوى غلامٍ يقال له: يسار، أعتقه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم رجع المسلمون إلى المدينة منتصرين غانمين بعد بقائهم في ديار القوم ثلاثة أيام ..
غزوة السويق :
خرج أبو سفيان من مكة في مائتي راكب، وذلك بعد أن قرر مفاجأة المدينة بغارة، يعود بعدها وقد ردَّ لقريش بعض سمعتها وهيبتها التي ذهبت في هزيمة بدر، وسلك طريق النجدية حتى نزلوا حي بني النضير ليلاً، واستقبلهم سلاّم بن مشكم سيد بني النضير، فأطعمهم وسقاهم وكشف لهم عن أسرار المسلمين، وتدارس معهم الطرق والوسائل لإيقاع الأذى بالمسلمين، ثم قام أبو سفيان بمهاجمة ناحية العُريض – واد بالمدينة – فقتل رجلين وأحرق نخلا وفر عائداً إلى مكة، فتعقبه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار، ولكنه لم يتمكن من إدراكهم، لأن أبا سفيان ورجاله قد جدّوا في الهرب في جنح الظلام، وجعلوا يتخففون من أثقالهم، ويرمون ما معهم من المؤن والزاد لكي يستطيعوا الهروب من غير عائق، وكان أكثر ما معهم السويق، وهو نوع من أنواع الأطعمة التي كانوا يأكلونها، فألقوا سويقًا كثيرًا كان غنيمة للمسلمين، ولذلك سميت هذه الغزوة بغزوة السويق، وقد تمكن أبو سفيان من الهرب، وأفلت من العقاب، وعاد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة بعد أن غاب عنها خمسة أيام دون أن يلقى حرباً ..
غزوة ذي أمر( موضع من ديار غطفان) :
هي أكبر حملة عسكرية قادها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل معركة أحد، قادها في المحرم في السنة الثالثة من الهجرة . وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ .
وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال له : جُبَار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدعاه إلى الإسلام فأسلم، فضمه إلى بلال ، وصار دليلاً لجيش المسلمين إلى أرض العدو . فعلم المشركون من بني ثعلبة ومحارب بمسير المسلمين إليهم فتفرقوا وفرّوا إلى رؤوس الجبال، أما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمي بذي أمر، وبقي في نجد مدة تقارب الشهر دون أن يلقى كيداً من أحد، وعاد بعدها إلى المدينة ..
غزوة بحران :
كانت هذه الغزوة في شهر جمادي الأولى من السنة الثالثة للهجرة، وقد خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – في ثلاثمائة من المسلمين، بعد أن استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ، وسار حتى بلغ بَحْران ـ أو بُحْران ـ بين مكة والمدينة، يريد قتال بني سليم، فوجدهم قد تفرقوا خوفا وفزعا تحقيقا لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) ( البخاري )، فانصرف عنهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وعاد إلى المدينة بعد أن أمضى خارجها عشر ليال ..
وهكذا فإن هذه الغزوات ـ على صغرها وعدم حدوث قتال شديد فيها ـ إلا أنها قد حققت أهدافا وحِكَماً كثيرة ينبغي الوقوف معها للاستفادة منها في واقعنا، ومنها :
إشعار مشركي المدينة ويهودها والمنافقين وأعراب البادية، أن المسلمين أقوياء، ومن حق الدولة المسلمة الجديدة أن تعتني وتفخر بهذه العمليات العسكرية على ضآلة شأنها، فإن المتربصين بالإسلام كُثر، ولن يصدهم عن النيل منه إلا الخوف، كما قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ } (الأنفال:60) .
كما أن هذه الغزوات قد أبرزت قدرة القيادة الإسلامية على رصد تحركات العدو، ومعرفة قوته وخططه، ومظاهر الحزم والعزم عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مبادرته بالخروج لغزو أعدائه قبل أن يشتد ويستفحل أمرهم، ويصبحوا خطرا على الدولة المسلمة، والخروج إلى العدو وتتبعه تخويفا له وإظهاراً لقوة المسلمين، وأنهم ليسوا قادرين فقط على هزيمة من تحدّثه نفسه بالاقتراب من المدينة، بل نقل المعركة إلى أرضه هو، ومحاربته في عقر داره .
وكذلك بينت فضْل ومنزلة عبد الله بن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ الذي استخلفه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المدينة، وجواز تولية الأعمى إذا كان صاحب أهلية للولاية من الإيمان والعلم والتقوى ..
ثم إن هذه الغزوات وما شابهها في هذه الصحراء المترامية الأطراف كانت دورات تربوية وعسكرية للصحابة الكرام، فقد كان المنهج النبوي يهتم بتربية الصحابة في ميادين القتال والجهاد، ولا يغفل عن المسجد ودوره في صقل النفوس، وتنوير العقول، وتهذيب الأخلاق من خلال وجود رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ المربي والمعلم، الذي أصبحت تعاليمه تشع في أوساط المجتمع من خلال القدوة والتوجيه في السلم والحرب، فالمنهاج النبوي الكريم جمع بين التربية السلوكية والأخلاقية من خلال المسجد، والتربية العسكرية من خلال الغزوات والسرايا، حتى يقوى المجتمع المسلم الجديد، ويقوم بدوره بنشر الإسلام في الآفاق ..
موقع مقالات اسلام ويب