الفتاة المهاجره
اشترط كفار قريش لأنفسهم فى صلح الحديبية الذي عقدوه مع رسول اللَّه
هذا الشرط : " لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك، إلا رددته إلين ا"، فكان
شرطًا قاسيًا وابتلاءً عظيمًا لكل من آمن من أهل مكة ولم يهاجر بعد..
وكانت هناك فتاة قرشية أسلمت قبل هذا الصلح بكثير، أسلمت قبل أن يهاجر رسول اللَّه (إلى المدينة، لكنها لضعفها ورقتها لم تحتمل ما تعرض له مسلمو مكة بعد ذلك الصلح من فتنة وعذاب، وضاقت ذرعًا بما يصنع المشركون، فقررت – بالرغم من علمها بذلك الشرط – أن تهاجر إلى المدينة حيث رسول اللَّه صلى اله عليه وسلم ثم ليقضِ اللَّه – بعد ذلك – فى أمرها ما يشاء.
تقول رضي الله عنها: "كنت أخرج إلى بادية لنا فيها أهلي، فأقيم بها الثلاث والأربع، وهي ناحية التنعيم، ثم أرجع إلى أهلي، فلا ينكرون ذهابي إلى البادية حتى أجمعت المسير، فخرجت يومًا من مكة كأني أريد البادية، فلما رجع من تبعني، إذا رجل من خزاعة، قال: أين تريدين ؟ قلت: ما مسألتك؟ ومن أنت؟ قال: رجل من خزاعة، فلما ذكر خزاعة اطمأننت إليه لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني امرأة من قريش، وإني أريد اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا علم لي بالطريق، فقال: أنا صاحبك حتى أوردك المدينة.
ثم جاءني ببعير فركبته، فكان يقود بي البعير، ولا والله ما يكلمني بكلمة، حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده بالشجرة، وتنحى إلى فيء شجرة، حتى إذا كان الرواح حدج البعير فقرَّبه وولَّى عني، فإذا ركبت أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى أنزل، فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله من صاحب خيرًا.
فدخلت على أم سلمة وأنا منتقبة، فما عرفتني حتى انتسبت وكشفت النقاب، فالتزمتني، وقالت: هاجرتِ إلى الله سبحانه وتعالى وإلى رسوله؟ قلت: نعم، وأنا أخاف أن يردني كما ردَّ أبا جندل وأبا بصير، وحال الرجال ليس كحال النساء، والقوم قد طالت غيبتي اليوم عنهم خمسة أيام منذ فارقتهم، وهم يتحينون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبونني، فإن لم يجدوني رحلوا.
فخرج أهلها يبحثون عنها، فعلموا أنها هاجرت إلى المدينة، فقالوا: لا ضير، بيننا وبين محمد عهد وصلح، وليس أحد من الناس بأوفى من محمد، نذهب إليه، ونسأله أن يفى لنا بعهدنا.
وقدم أخواها "عمارة" و"الوليد" المدينة فى طلب أختهما، وعلمت الفتاة أن رسول اللَّه (سيفى لهما بما وعد، فأقبلت نحو رسول اللَّه فى ثقة فقالت: يا رسول اللَّه أنا امرأة، وحَالُ النساء إلى ما قد علمت (من الضعف)، فأخشى إن رددتنى إليهم أن يفتنونى فى دينى ولا صبر لي.
فـإذا برحمات اللَّه تنزل لتلغى ذلك الشرط الجائر فى حق النساء، فأنزل الله تعالى فى ذلك قرآنًا يُتْلَى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ألله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) [ الممتحنة: 10].
وتمثل هذا الامتحان فى سؤال المرأة عن سبب هجرتها؛ ليتأكد من صدق إسلامها وحسن إقبالها على الله ورسوله.. فقالت: "باللَّه ما خرجت من بغض زوج، وباللَّه ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وباللَّه ما خرجت التماس دنيا، وباللَّه ما خرجت إلا حبا للَّه ورسوله".
وعلم اللَّه ما فى قلب هذه الفتاة المؤمنة من خير، فإنه ما أخرجها من أرضها وديارها إلا حب اللَّه وحب رسول اللَّه فأنزل السكينة عليها، وألقى فى قلوب المسلمين تصديقها، ورد أخويها والذين ظلموا على أعقابهم وخَيَّب مسعاهم.. وهكذا مَنْ تَصْدُقِ اللَّه يصدقْها، ومن تتوكل على اللَّه يَكْفِها، ومن تستنصر اللَّه ينصرها، قال تعالى: والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف: 21].
إنها الصحابية الفاضلة "أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط"-رضى اللَّه عنها- أخت عثمان بن عفان لأمه،تزوجها زيد ابن حارثة -رضى الله عنه-، ثم ما لبث أن استشهد فى غزوة مؤتة، فتزوجها الزبير بن العوام فولدت له زينب، ثم طلقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف -رضى الله عنه-، وكانت معه مثالا للزوجة الصالحة الوفية، وأنجبتْ له إبراهيم وحميدًا، ولما توفى عبد الرحمن ابن عوف تزوجها عمرو بن العاص فعاشتْ معه شهرًا ثم توفيت، وكان ذلك فى خلافة الإمام على بن أبى طالب -كرم الله وجهه-.
..
وقد روت السيدة أم كلثوم -رضى الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنها الكثيرون؛ ومما روى عنها أنها سمعت رسول اللَّه يقول: "ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس فينمى خيرًا ويقول خيرًا" متّفق عليه